في هذا العدد من مجلة بريم، نطلّ على مشهد عربي تتقاطع فيه الأسئلة الكبرى بين السياسة والإنسان والعمران؛ حيث تفرض التحولات المناخية، والتحولات الاجتماعية، والحروب، واقعًا جديدًا يعيد تشكيل العلاقة بين الفرد والمكان والدولة.
من الخليج إلى البحر الأحمر، ومن المدن الساحلية إلى العقول الشابة المتعبة بالحروب، ومن ذاكرة المتقاعدين الذين حملوا خبرة السنين، إلى استراتيجيات القوة الناعمة التي ترسم ملامح النفوذ الخليجي الجديد — يتقاطع في هذا العدد البحثي والتحليلي هاجسٌ واحد: كيف تبقى المجتمعات حيّة رغم كل أشكال الإنهاك؟
في ورقة “القوة الناعمة في السياسة الخليجية” للدكتورة شورى فضل، نقرأ تحليلاً مقارنًا بين التجربتين السعودية والإماراتية، وكيف تحوّل الخطاب التنموي والثقافي إلى أداة نفوذ سياسي وإنساني متصاعد. ورقة تعيد تعريف “النفوذ” ليس بوصفه قهرًا، بل قدرة على الإقناع والاحترام.
أما في دراسة “استمرار الحرب وتأثيرها على فئة الشباب والمراهقين”، فنجد صوتًا مختلفًا يخرج من قلب المأساة اليمنية، ليصف كيف تحوّل المراهقون إلى ضحايا لاضطراب نفسي واجتماعي عميق، وكيف غدت الحرب معلمًا قاسيًا يبدّل القيم واللغة والسلوك.
ويأتي بحث “المتقاعدون والاستفادة من تجاربهم الحياتية وخبراتهم المهنية” للأستاذ الدكتور فضل الربيعي، ليعيد الاعتبار إلى الجيل الذي صنع التجارب ثم أُقصي عنها قسرًا. دراسة تنظر إلى المتقاعدين كـ”رأسمال اجتماعي مهدور” كان يمكن أن يكون جسرًا بين الأجيال، لا ضحية لصراعها.
وفي المقابل، تقدم الباحثة رحيمة عبد الرحيم في دراستها “أثر التغيرات المناخية في تخطيط المدن العربية في الدول المشاطئة للبحر الأحمر وخليج عدن” رؤية علمية تربط بين العمارة والمناخ والهوية؛ فتضعنا أمام سؤالٍ حضاري: هل ما زلنا نبني مدنًا تناسب بيئتنا، أم نكرر أخطاء الحداثة في محيطٍ لا يحتملها؟
إنّ هذا العدد لا يقدّم مقالاتٍ معزولة، بل ينسج بين السياسة والاجتماع والبيئة خيوطًا واحدة تشكّل الوجه الإنساني للتحولات الكبرى. فحين يتغير المناخ، يتغير عمران المدن؛ وحين تستمر الحروب، تتبدل بنية الإنسان؛ وحين تُهدر خبرات المتقاعدين، تضيع الحكمة؛ وحين تنهض الدول بقواها الناعمة، يتغيّر ميزان العالم.
من هنا، تؤكد مجلة بريم في هذا العدد أن المعرفة ليست ترفًا، بل فعل مقاومة حضارية في زمنٍ يزداد اضطرابًا، وأن بناء المستقبل يبدأ من فهم الإنسان… لا من السيطرة عليه.
