
الملخص التنفيذي
تناقش هذه الورقة تجربة سقوط مدينة المكلا في أبريل 2015، وسيطرة تنظيم القاعدة عليها، ثم تحريرها وإعادة بناء الأمن فيها، بوصفها حالة تحليلية تكشف ديناميات انهيار الدولة، وسلوك التنظيمات المسلحة غير الدولتية، وآليات تفكيكها في البيئات الهشّة. وتنطلق الدراسة من فرضية مفادها أن سقوط المكلا لم يكن نتيجة تفوق عسكري للتنظيم، بقدر ما كان نتاجًا لفراغ بنيوي في القرار السياسي والعسكري، وصمت قيادي أدى إلى انهيار منظومة الردع دون مواجهة حاسمة.
وتحلل الورقة استراتيجية تنظيم القاعدة في إدارة المدينة، موضحة كيف انتقل من السيطرة العسكرية إلى محاولة هندسة الحكم المحلي، عبر تحييد المجتمع، وضبط الفضاء العام، واستثمار حالة الإنهاك الاجتماعي والنفسي. كما تتناول الدراسة أثر الحكم المسلح على البنية المجتمعية، مع التركيز على إعادة تشكيل الخوف والامتثال، وتراجع المجال العام، وما ترتب على ذلك من قبول مؤقت فرضته غياب الدولة لا شرعية التنظيم.
في المقابل، تبرز الورقة تجربة تحرير المكلا كنموذج مغاير في مكافحة الإرهاب، قائم على تمكين الفاعل المحلي، وتكامل الدور العسكري مع البعد الأمني والمجتمعي. وتؤكد الدراسة أن الدور الذي اضطلعت به دولة الإمارات العربية المتحدة شكّل عاملًا حاسمًا في تغيير ميزان القوة، ليس فقط عبر الإسناد العسكري واللوجستي، بل من خلال بناء قوات محلية محترفة ممثلة في قوات النخبة الحضرمية، ودعم القيادة المحلية للعملية بقيادة اللواء أحمد سعيد بن بريك واللواء فرج سالمين البحسني.
وتخلص الورقة إلى أن الفاعلية الإماراتية في حضرموت قامت على مقاربة شاملة لمكافحة التطرف، ربطت بين الأمن والتنمية، والتحرير وإعادة بناء الثقة المجتمعية، عبر تأهيل البنية التحتية، وتنفيذ مشاريع خدمية وإغاثية، وإرساء خطة أمنية مستدامة أعادت الاستقرار للمدينة، وحوّلتها إلى نموذج نسبي للأمن في بيئة صراعية مفتوحة.
وتؤكد الدراسة في نتائجها أن مواجهة التنظيمات المتطرفة لا تتحقق بالحسم العسكري وحده، بل عبر تجفيف بيئتها الحاضنة، وبناء مؤسسات أمنية محلية منضبطة، واستعادة دور الدولة بوصفها ضامنًا للأمن والخدمة معًا. وتقدّم تجربة المكلا، في هذا السياق، درسًا استراتيجيًا قابلًا للتأمل في كيفية الانتقال من إدارة الصراع إلى إدارة الاستقرار في اليمن والجنوب والمنطقة.
Abstract
This paper examines the case of Mukalla, Yemen, focusing on its fall to Al-Qaeda in April 2015, the group’s subsequent governance of the city, and its eventual liberation and post-liberation stabilization. The study approaches Mukalla as a critical case that illustrates the dynamics of state collapse, the behavior of non-state armed groups, and the mechanisms through which such groups can be dismantled in fragile environments. It argues that the fall of Mukalla was not the result of Al-Qaeda’s military superiority, but rather the outcome of a profound structural vacuum marked by political indecision, military fragmentation, and leadership paralysis.
The paper analyzes Al-Qaeda’s strategy in Mukalla, highlighting its shift from military control to an attempt at local governance through social containment, gradual behavioral regulation, and the exploitation of societal exhaustion. It further explores the social impact of militant rule, particularly the reshaping of fear, compliance, and public space, demonstrating how temporary acquiescence stemmed from the absence of state authority rather than from any genuine legitimacy.
In contrast, the liberation of Mukalla is presented as a distinct counterterrorism model based on empowering local actors and integrating military action with broader security and community-based measures. The study emphasizes the decisive role played by the United Arab Emirates, not only through direct military, logistical, and intelligence support, but also through the formation and training of local forces, notably the Hadrami Elite Forces, and sustained backing of local leadership under Governor Ahmed Saeed Bin Breik and Major General Faraj Salmin Al-Bahsani.
The paper concludes that the UAE’s effectiveness in Hadramout rested on a comprehensive approach to countering extremism, one that linked security with development, liberation with institutional rebuilding, and counterterrorism with the restoration of public trust. By rehabilitating critical infrastructure, implementing humanitarian and development projects, and establishing a disciplined and community-oriented security framework, Mukalla was transformed into a relatively stable urban center and a refuge for civilians fleeing other conflict zones.
Ultimately, the study argues that countering extremist organizations requires more than military defeat; it necessitates dismantling the structural conditions that enable their emergence. The Mukalla experience offers a strategic lesson on how locally grounded security forces, supported by disciplined external assistance and sustained development efforts, can shift conflict management toward long-term stability in Yemen, southern Yemen, and comparable conflict-affected regions.
المقدمة
لم يكن سقوط مدينة المكلا في الثاني من أبريل 2015 حدثًا عسكريًا تقليديًا ناتجًا عن مواجهة مفتوحة بين طرفين متكافئين، بل شكّل نموذجًا مركّبًا لانهيار الدولة المحلية أمام فاعل مسلح غير دولتي، استطاع خلال ساعات قليلة السيطرة على مدينة استراتيجية تضم مؤسسات عسكرية وأمنية ومرافق سيادية حيوية، دون الدخول في معركة واسعة النطاق.
هذا السقوط السريع، الذي رافقه صمت قيادي وانسحاب غير مبرر للقوات النظامية، يثير تساؤلات جوهرية تتجاوز التفسير السطحي القائم على “ضعف الدولة” أو “تفوق التنظيم عسكريًا”.
تكتسب حالة المكلا أهميتها من كونها أول تجربة ناجحة لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب في الانتقال من العمل المسلح إلى محاولة إدارة الحكم المحلي بصورة منهجية، مستفيدًا من دروس إخفاقاته السابقة في أبين وشبوة، ومن الفراغ السياسي والأمني الذي أفرزته الحرب اليمنية.
فالتنظيم لم يعتمد فقط على القوة المسلحة، بل انتهج استراتيجية متعددة الأبعاد شملت تفكيك مراكز القرار العسكري، وتحييد المجتمع المحلي، وإعادة إنتاج نفسه كفاعل “محلي” قادر على ملء فراغ الدولة، ولو مؤقتًا.
تهدف هذه الورقة إلى تقديم قراءة تحليلية بنيوية لسقوط المكلا، من خلال تفكيك العوامل العسكرية، والسياسية، والاجتماعية، التي أسهمت في هذا الانهيار، وتحليل الكيفية التي نجح بها تنظيم القاعدة في فرض سيطرته وإدارة المدينة، قبل أن تتغير موازين القوة لاحقًا. كما تسعى الورقة إلى استخلاص الدروس الاستراتيجية من هذه التجربة، في ضوء التحديات الراهنة واحتمالات عودة التنظيمات المسلحة بأشكال وخطابات جديدة.
إشكالية الورقة
تنطلق هذه الورقة من الإشكالية الرئيسة الآتية: كيف تمكن تنظيم القاعدة في جزيرة العرب من السيطرة على مدينة المكلا في عام 2015 دون معركة عسكرية حاسمة، رغم وجود بنية أمنية وعسكرية رسمية، وما هي الأدوات البنيوية التي استخدمها لإدارة الحكم المحلي؟.
أسئلة البحث
ما العوامل البنيوية التي أدت إلى انهيار المنظومة العسكرية والأمنية في المكلا؟
كيف استثمر تنظيم القاعدة الصمت القيادي وتفكك الولاءات داخل المؤسسات الرسمية؟
ما ملامح استراتيجية التنظيم في الانتقال من السيطرة العسكرية إلى إدارة الحكم المحلي؟
كيف أثّرت سيطرة التنظيم على البنية الاجتماعية، ولا سيما على النساء والتعليم والفضاء العام؟
ما الدروس التي يمكن استخلاصها من تجربة المكلا في فهم سلوك التنظيمات المسلحة غير الدولتية مستقبلًا؟
المنهجية
سقوط المكلا 2015.. تحليل بنيوي لاستراتيجية القاعدة في السيطرة والحكم المحلي
تحليل تسلسل الأحداث المرتبطة بسقوط المكلا.
تفكيك البنية العسكرية والأمنية والمؤسسية للمدينة قبيل السقوط.
دراسة أنماط سلوك تنظيم القاعدة في إدارة الحكم المحلي.
تحليل الأثر الاجتماعي والنفسي للسيطرة المسلحة على المجتمع المحلي.
وتستند الورقة إلى مصادر مفتوحة، وشهادات غير مباشرة، وتحليل سردي للأحداث بوصفها مادة تفسيرية داعمة للتحليل البنيوي.
المبحث الأول: السياق العام لسقوط المكلا (2011–2015)
مثّلت محافظة حضرموت، تاريخيًا، حالة استثنائية داخل الدولة اليمنية، سواء من حيث المساحة الجغرافية، أو البنية الاجتماعية، أو موقعها الاقتصادي والاستراتيجي. فرغم كونها أكبر المحافظات مساحة، ظلت حضرموت على هامش مركز القرار السياسي في صنعاء، تُدار غالبًا بوصفها منطقة “مستقرة نسبيًا” لا تتطلب استثمارًا جديًا في بناء مؤسسات أمنية وعسكرية فعالة، بل الاكتفاء بإدارة أمنية تقليدية تقوم على مزيج من النفوذ العسكري والوساطات القبلية.
هذا التهميش البنيوي أسهم في نشوء حالة من الاستقرار السلبي؛ أي استقرار لا يستند إلى قوة الدولة أو فاعلية مؤسساتها، بل إلى غياب التحديات المباشرة. ومع اندلاع الاحتجاجات في اليمن عام 2011، ثم تفكك الدولة تدريجيًا بعد ذلك، بدأت هذه الهشاشة بالظهور بوضوح، خصوصًا في المحافظات البعيدة عن مركز الصراع المباشر، ومنها حضرموت.
لم يؤدِّ سقوط نظام علي عبد الله صالح في 2011 إلى انهيار فوري للدولة، بقدر ما أدخلها في مرحلة انتقالية طويلة اتسمت بازدواجية السلطة، وتفكك مراكز القرار، وتآكل الولاءات داخل المؤسستين العسكرية والأمنية.
في هذه المرحلة، احتفظت حضرموت بمظهرها الخارجي كمنطقة مستقرة، لكن هذا الاستقرار كان هشًا، يقوم على توازنات مؤقتة، لا على منظومة ردع مؤسسية حقيقية.
خلال هذه الفترة، ظلّت المنطقة العسكرية الثانية، المسؤولة عن تأمين حضرموت، تعاني من إشكالات بنيوية عميقة، أبرزها ضعف وحدة القيادة والسيطرة، تداخل الولاءات السياسية والشخصية، وغياب عقيدة عسكرية واضحة تحكم التعامل مع التهديدات غير التقليدية، وهذا الوضع جعل المحافظة مكشوفة أمام أي فاعل مسلح يمتلك الحد الأدنى من التنظيم والتخطيط، حتى دون امتلاكه تفوقًا عدديًا أو تسليحيًا.
مع سيطرة جماعة الحوثيين على صنعاء في سبتمبر 2014، ثم اندلاع الحرب في مارس 2015، دخلت الدولة اليمنية مرحلة الانهيار العملي. انشغلت مراكز القرار السياسية والعسكرية بالصراع في الشمال والجنوب، وتراجعت قدرة الدولة على إدارة الأطراف، ومنها حضرموت.
في هذا السياق، تحولت المكلا من مدينة “بعيدة عن مركز النار” إلى مدينة بلا غطاء فعلي. فالحرب لم تُضعف الدولة فقط، بل شلّت قدرتها على اتخاذ القرار. أصبحت الأوامر غامضة، وسلاسل القيادة غير فاعلة، وأولوية المواجهة غير واضحة، وهو ما خلق فراغًا متعدد الأبعاد “فراغًا أمنيًا نتيجة غياب التوجيه، فراغًا سياسيًا بسبب غياب القرار المركزي، فراغًا نفسيًا داخل الوحدات العسكرية التي لم تعد تعرف من تقاتل ولأجل من، هذا الفراغ لم يكن مفاجئًا، بل كان نتيجة تراكمية لمسار طويل من إدارة الأزمات بالترحيل، لا بالحسم.
في كثير من السرديات السائدة، يُقدَّم سقوط المكلا باعتباره نتيجة مباشرة لقوة تنظيم القاعدة في جزيرة العرب. غير أن هذا التفسير يُغفل حقيقة جوهرية، وهي أن التنظيمات المسلحة لا تخلق الفراغ، بل تستثمره.
ففي حالة المكلا، لم يكن التنظيم بحاجة إلى معركة مفتوحة، لأن البيئة كانت مهيأة لاستقباله كفاعل يملأ فراغًا، لا كقوة غازية.
لقد أظهرت التجربة أن التنظيمات المسلحة تنجح عندما تتوافر ثلاثة شروط متزامنة، دولة ضعيفة أو غائبة القرار، مؤسسة عسكرية بلا ولاء موحد، مجتمع مُحيَّد أو مُنهَك لا يرى في الدولة حاميًا فعليًا، وقد توفرت هذه الشروط في المكلا عشية أبريل 2015 بصورة شبه كاملة.
لم تكن المكلا مجرد مدينة ساحلية، بل مركزًا إداريًا، وميناءً حيويًا، وموقعًا رمزيًا لحضرموت. السيطرة عليها تعني السيطرة على عقدة جغرافية استراتيجية، موارد مالية وبشرية، صورة رمزية لانهيار الدولة في واحدة من أكثر مناطقها “هدوءًا” تاريخيًا، من هنا، تكتسب دراسة سقوط المكلا أهميتها ليس بوصفه حدثًا محليًا، بل نموذجًا قابلًا للتكرار في بيئات مشابهة، حيث تغيب الدولة شكليًا قبل أن تغيب فعليًا.
ويُظهر هذا السياق أن سقوط المكلا لم يكن نتيجة ضربة عسكرية مفاجئة، بل حصيلة مسار طويل من الهشاشة البنيوية للدولة اليمنية، تفاقم مع مرحلة ما بعد 2011، ثم بلغ ذروته مع اندلاع الحرب في 2015.
لقد سقطت المكلا لأن الدولة كانت قد تراجعت عن وظيفتها الأساسية قبل ذلك بوقت طويل، تاركة المدينة أمام فراغٍ لم يكن بحاجة إلى قوة كبيرة لملئه.
المبحث الثاني: الانهيار العسكري والأمني – الصمت القيادي وتفكك القرار
لم يكن انهيار المنظومة العسكرية والأمنية في المكلا نتيجة هجوم خاطف أو تفوق ميداني لتنظيم القاعدة، بل كان انعكاسًا مباشرًا لحالة شلل عميق أصابت بنية القيادة قبل أن تصيب الجنود. ففي اللحظات الحاسمة التي سبقت سقوط المدينة، لم يكن الغياب غياب القوة، بل غياب القرار. هذا الصمت، الذي خيّم على غرف القيادة، كان العامل الأكثر حسماً في تحويل مدينة محصّنة نسبيًا إلى مساحة مفتوحة أمام فاعل مسلح يعرف تمامًا كيف يقرأ لحظات التردد.
تكوّنت المنظومة العسكرية في حضرموت، وتحديدًا في المنطقة العسكرية الثانية، ضمن سياق طويل من التداخل بين السياسة والعسكر، حيث لم تُبنَ عقيدة قتالية واضحة بقدر ما بُنيت توازنات ولاء معقّدة. ومع تصاعد الصراع الوطني بعد 2011، ثم انفجار الحرب الشاملة في 2015، أصبحت هذه التوازنات عبئًا لا مصدر قوة. فالقيادات العسكرية لم تعد تعمل ضمن هرم واضح، بل داخل شبكة من الحسابات الشخصية والاصطفافات السياسية المتناقضة، ما جعل إصدار قرار المواجهة مخاطرة فردية أكثر منه واجبًا مؤسسيًا.
في تلك اللحظة الحرجة، حين بدأت التحركات المسلحة في أطراف المكلا، لم يصدر أمر واضح بالرد أو الانتشار أو حتى التحصن. بقيت الوحدات العسكرية في حالة انتظار، لا تعرف ما إذا كانت تتحرك دفاعًا عن مدينة، أم أنها ستُترك لاحقًا لتتحمل وحدها تبعات أي مواجهة. هذا التردد لم يكن نابعًا من ضعف القدرة القتالية، بل من غياب الضمان السياسي والعسكري للقيادات الميدانية، التي أدركت أن أي قرار مستقل قد يضعها في مواجهة مستقبلية مع قوى أقوى منها داخل منظومة الدولة نفسها.
الصمت القيادي هنا لا يمكن فهمه بوصفه خطأً فرديًا، بل كنتاج بنيوي لمنظومة عسكرية فقدت مركزها الناظم. فعندما تتعدد مراكز النفوذ، ويتراجع مفهوم الدولة كمرجعية نهائية، يصبح الامتناع عن القرار خيارًا عقلانيًا بالنسبة للقيادات، حتى وإن كان كارثيًا على مستوى المدينة والمجتمع. لقد كانت المكلا، في تلك الساعات، ضحية هذا العقل الدفاعي البارد الذي يفضّل السلامة الشخصية والمؤسسية الضيقة على المجازفة بحماية المجال العام.
ومع غياب القرار، انهارت سلاسل القيادة تلقائيًا. الجنود، الذين يفترض بهم تنفيذ الأوامر، وجدوا أنفسهم أمام فراغ توجيهي كامل. لم يكن السؤال المطروح بينهم: كيف نقاتل؟ بل: من نقاتل؟ ولصالح من؟ وفي ظل هذا الالتباس، تحوّل السلاح من أداة دفاع إلى عبء، وتحولت المواقع العسكرية إلى نقاط انتظار بلا وظيفة واضحة. لم يعد الانسحاب فعلاً جبانًا، بل صار في نظر كثيرين خيارًا عقلانيًا في مواجهة غياب القيادة.
في هذا الفراغ، لم يحتج تنظيم القاعدة إلى فرض نفسه بالقوة، بل اكتفى بالتحرك بثقة داخل مساحة شُلّت فيها إرادة الدولة. فالتنظيم كان يدرك أن المعركة الحقيقية لا تُخاض مع الجنود، بل مع القرار. وحين سقط القرار، سقطت المدينة تباعًا. لم يكن المشهد مشهد هزيمة عسكرية، بل تفكك داخلي صامت، جعل السيطرة مسألة وقت لا أكثر.
الأخطر في هذا الانهيار أنه كشف هشاشة العلاقة بين المؤسسة العسكرية والمجتمع. فحين لم يرَ السكان تحركًا حقيقيًا للدفاع عن المدينة، تآكلت الثقة المتبقية في الدولة، وبدأت المكلا تتحول نفسيًا من مدينة محمية إلى مدينة متروكة. هذا التحول النفسي كان مكملًا للانهيار العسكري، إذ إن غياب المقاومة المنظمة جعل التنظيم يظهر، ولو مؤقتًا، بوصفه الطرف الأكثر حضورًا وتنظيمًا، لا لأنه شرعي، بل لأن البديل غائب.
وهكذا، لم تسقط المكلا لأن القاعدة كانت قوية على نحو استثنائي، بل لأن الدولة كانت ضعيفة على نحو فادح. ضعف لا يُقاس بعدد الجنود أو السلاح، بل بقدرة القيادة على اتخاذ القرار في اللحظة التي يتطلب فيها الصمت أقل من الكلام، لكن يتطلب فيها القرار شجاعة مؤسسية غائبة.
المبحث الثالث: استراتيجية القاعدة في السيطرة – من العمل العسكري إلى هندسة الحكم
لم يتعامل تنظيم القاعدة في جزيرة العرب مع سقوط المكلا بوصفه لحظة نصر عسكري تقليدية، بل بوصفه نقطة انتقال محسوبة من طور المواجهة إلى طور الإدارة. فالتجارب السابقة للتنظيم، ولا سيما في أبين وشبوة، علّمته أن السيطرة بالقوة وحدها لا تصمد طويلًا، وأن العنف غير المنضبط يولّد مقاومة اجتماعية أسرع من قدرة التنظيم على الاحتواء. لذلك، لم يكن دخوله المكلا في أبريل 2015 دخولًا صاخبًا، بل أقرب إلى انزلاق هادئ داخل مدينة فقدت مناعتها السياسية والأمنية.
في الساعات الأولى للسيطرة، بدا التنظيم حريصًا على تثبيت صورة مغايرة لما ألفه السكان عن التنظيمات الجهادية. لم تُفرض مظاهر قمعية فورية، ولم تُعلن أحكام متشددة على نحو صادم، بل جرى تقديم التنظيم بوصفه قوة “منضبطة” جاءت لسد فراغ الدولة لا لاستبدالها علنًا. هذا السلوك لم يكن عفويًا، بل يعكس تطورًا في التفكير الاستراتيجي لدى التنظيم، الذي بات يدرك أن الحكم يبدأ من كسب الوقت قبل كسب الطاعة.
اعتمدت القاعدة، في هذه المرحلة، على إعادة إنتاج ذاتها بواجهة محلية، فغابت التسميات الصدامية، وبرز خطاب يُظهر الارتباط بالمجتمع الحضرمي، لا التعالي عليه. كان الهدف واضحًا: نزع الطابع الخارجي عن التنظيم، وتقديمه كفاعل نشأ من داخل البيئة المحلية، لا كقوة دخيلة. هذا التمويه الاجتماعي مكّن التنظيم من تحييد قطاعات واسعة من المجتمع، ليس بدافع القبول الحقيقي، بل بدافع تجنب الصدام في لحظة غياب البدائل.
في الوقت ذاته، تحرك التنظيم بسرعة للسيطرة على مفاصل الدولة الرمزية والعملية معًا. لم تكن هذه السيطرة عشوائية، بل انتقائية ومدروسة. فالسجن المركزي لم يكن مجرد منشأة أمنية، بل خزانًا بشريًا وتنظيميًا بالغ الأهمية، وتحرير المحتجزين شكّل دفعة معنوية وتنظيمية أعادت إنتاج القوة البشرية للتنظيم. أما المؤسسات المالية، فمثّلت رافعة اقتصادية مكّنت التنظيم من إدارة المدينة دون الاعتماد الفوري على الجبايات القسرية، وهو ما ساعده في الحفاظ على صورة “الاستقرار”.
لكن الأهم في هذه المرحلة لم يكن ما استولى عليه التنظيم، بل ما تجنّب استهدافه. فقد حرص على عدم الاصطدام المباشر مع البنية القبلية، وتجنب الدخول في صراع مفتوح مع المجتمع المحلي، إدراكًا منه أن القتال مع القبائل في حضرموت سيحوّل السيطرة المؤقتة إلى استنزاف طويل الأمد. هذا الوعي بطبيعة المجتمع المحلي ميّز تجربة المكلا عن تجارب أخرى أكثر دموية، وأعطى التنظيم هامش حركة أوسع.
ومع تثبيت السيطرة الميدانية، بدأ التنظيم في الانتقال التدريجي من منطق القوة إلى منطق الإدارة. لم يُعلن نظام حكم متكامل، لكنه بدأ بإدارة الشأن العام عبر تنظيم الحياة اليومية، وضبط الحركة، وتقديم نفسه كجهة قادرة على فرض “النظام” في مقابل فوضى الدولة المنسحبة. هذا التحول لم يكن هدفه بناء دولة بديلة بالمعنى التقليدي، بل خلق حالة من الاعتياد النفسي على وجود التنظيم بوصفه أمرًا واقعًا.
في هذا السياق، لعب الخطاب الديني دورًا مركزيًا، لكن دون إفراط صدامي. فقد جرى توظيف الدين كأداة ضبط اجتماعي تدريجية، لا كوسيلة صدمة. لم تكن الفتاوى في البداية وسيلة للعقاب بقدر ما كانت وسيلة لإعادة تعريف المجال العام، وتحديد ما هو مسموح وما هو محظور، تمهيدًا لفرض السيطرة الرمزية قبل السيطرة السلوكية الكاملة.
هذه الاستراتيجية كشفت عن تطور ملحوظ في فهم التنظيم لطبيعة السلطة. فالسلطة، في تجربة المكلا، لم تُختزل في السلاح، بل في القدرة على إدارة الفراغ، واستثمار الخوف، وتنظيم الحياة اليومية بما يمنع تشكّل مقاومة جماعية. لقد فهم التنظيم أن المجتمع المنهك لا يطلب الحرية فورًا، بل يبحث أولًا عن الاستقرار، حتى وإن كان استقرارًا هشًا ومشروطًا.
غير أن هذه الاستراتيجية، رغم نجاحها المرحلي، كانت تحمل في داخلها بذور فشلها. فمحاولة الجمع بين خطاب “الخدمة” ومنطق السيطرة القسرية تظل معادلة غير مستقرة. فكلما طال أمد الحكم، ارتفعت كلفة التعايش مع المجتمع، وبدأت التناقضات بين الادعاء والممارسة بالظهور. وهو ما سيظهر لاحقًا في تآكل شرعية التنظيم، حتى في ظل غياب الدولة.
تجربة المكلا، بهذا المعنى، لا تكشف فقط عن قدرة تنظيم القاعدة على التعلم من أخطائه، بل تكشف أيضًا عن حدود هذا التعلم. فالتنظيم استطاع أن يؤجل الصدام، لكنه لم يستطع إلغاؤه. كما استطاع أن يحكم دون ضجيج، لكنه لم يستطع أن يتحول إلى سلطة مقبولة على المدى الطويل.
المبحث الرابع: المجتمع تحت الحكم المسلح – إعادة تشكيل الخوف والامتثال
لم تبدأ سيطرة تنظيم القاعدة على المكلا من بوابة السلاح وحده، بل من بوابة أعمق وأخطر: إعادة تشكيل العلاقة بين المجتمع والخوف. فالمجتمعات التي تمرّ بانهيار مفاجئ للدولة لا تُقهر بالقوة المباشرة بقدر ما تُعاد برمجتها نفسيًا، بحيث يصبح الامتثال سلوكًا وقائيًا، لا نتيجة إكراه دائم. وفي حالة المكلا، كان هذا التحول النفسي بطيئًا، صامتًا، لكنه بالغ التأثير.
في الأيام الأولى للسيطرة، لم يشعر المجتمع بصدمة قمعية فورية. غابت مشاهد العنف العلني، وتأخرت مظاهر التشدد الصارخة، وهو ما خلق إحساسًا مضللًا بالطمأنينة المؤقتة. هذا الغياب لم يكن علامة تسامح، بل جزءًا من استراتيجية مدروسة هدفت إلى تفكيك رد الفعل المجتمعي قبل أن يتشكّل. فحين لا يُجبر الناس على المقاومة، يتعوّدون على الصمت، وحين يطول الصمت، يتحول إلى قبول سلبي.
تدريجيًا، بدأ التنظيم في إعادة رسم حدود الفضاء العام، ليس عبر أوامر صارمة، بل عبر إشارات سلوكية ودينية واجتماعية غير مباشرة. تغيّر إيقاع المدينة، وانكمشت المساحات الرمزية التي اعتاد المجتمع استخدامها للتعبير عن ذاته. لم تُلغَ الحياة الاجتماعية، لكنها أُعيدت صياغتها لتصبح أكثر حذرًا، أكثر انضباطًا، وأقل قدرة على الاعتراض. هذا التحول لم يكن معلنًا، لكنه كان محسوسًا في تفاصيل الحياة اليومية.
كانت النساء في قلب هذا التحول، ليس لأن التنظيم استهدفهن أولًا، بل لأن أجسادهن وسلوكهن شكّلت ساحة اختبار مبكرة لمدى قدرة التنظيم على فرض الضبط الاجتماعي. لم يكن القمع فجًّا في بدايته، لكنه كان تدريجيًا ومتصاعدًا، يبدأ بالنصح، ثم التلميح، ثم التحذير، قبل أن يتحول إلى معيار اجتماعي جديد يُراقبه المجتمع بنفسه. ومع الوقت، لم يعد الخوف صادرًا فقط عن سلطة التنظيم، بل عن نظرات الآخرين، وعن احتمال الوصم، وعن القلق من تجاوز حدود غير مكتوبة.
هذا النمط من السيطرة لا يعتمد على القوة المباشرة، بل على إعادة إنتاج الخوف داخل المجتمع نفسه. فحين يصبح المجتمع شريكًا في الرقابة، تتراجع الحاجة إلى العقاب العلني. وهنا تتجلى أخطر أشكال الحكم المسلح، حيث يتحول الامتثال إلى سلوك ذاتي، لا يُفرض بالسلاح بل بالقلق المستمر من الخطأ.
في هذا السياق، لعب التعليم دورًا مركزيًا في معركة السيطرة الرمزية. لم يُلغَ التعليم بالكامل، لكنه خضع لإعادة توجيه، سواء من حيث المحتوى أو من حيث المعنى. لم يعد التعليم أداة للتحرر الاجتماعي، بل مساحة يجب ضبطها وتحييدها. هذا التحجيم لم يكن نتيجة قرار إداري معلن، بل نتيجة مناخ عام يحدّ من الأسئلة، ويضيق أفق التفكير، ويعيد إنتاج الطاعة بوصفها قيمة.
الأخطر من ذلك أن هذا التحول لم يولّد مقاومة جماعية واضحة في البداية. فالمجتمع المنهك، الخارج لتوه من فراغ الدولة، كان يبحث عن أي شكل من أشكال الاستقرار، حتى وإن كان استقرارًا قائمًا على الخوف. هذا القبول المشروط لا يعني رضا حقيقيًا، لكنه يعكس لحظة ضعف جماعي يصبح فيها الصمت استراتيجية بقاء.
غير أن هذا الصمت لم يكن ثابتًا. فمع مرور الوقت، بدأت التناقضات بالظهور. فالضبط الاجتماعي، مهما بدا ناعمًا في بداياته، يحمل في داخله بذور التآكل. فكلما اتسعت دائرة المحظور، ضاقت مساحة الحياة الطبيعية، وبدأ الشعور بالاختناق يتسلل إلى المجتمع. هنا، لم يعد التنظيم مجرد بديل عن الدولة، بل تحوّل تدريجيًا إلى عبء نفسي واجتماعي، حتى على أولئك الذين لم يعارضوه صراحة.
تجربة المكلا تُظهر أن الحكم المسلح لا يُقاس فقط بقدرته على السيطرة، بل بقدرته على إدارة المجتمع دون أن يفقده بالكامل. وفي هذه النقطة تحديدًا، بدأت استراتيجية التنظيم في فقدان توازنها. فالمجتمع الذي قَبِل بالصمت لم يقبل بالذوبان الكامل، ومع كل محاولة لتوسيع دائرة السيطرة، كانت المسافة بين التنظيم والناس تتسع، ولو بصمت.
وهكذا، لم يكن المجتمع في المكلا مجرد ضحية سلبية، بل ساحة صراع غير مرئي بين الخوف والذاكرة، بين التكيف والرفض المؤجل. صراع لا يظهر في الشارع، لكنه يتراكم في الداخل، ويُمهّد لانكسار السيطرة حين تتغير موازين القوة.
المبحث الخامس: التحرير وإعادة بناء الأمن – الدور الإماراتي وتمكين الفاعل المحلي
لم يكن تحرير الساحل الحضرمي ومدينة المكلا حدثًا عسكريًا معزولًا عن سياقه، ولا نتيجة اندفاعة قوة طارئة، بل خلاصة مسار محسوب أعاد ترتيب معادلة القوة على الأرض بعد أن استُنفدت شروط استمرار الحكم المسلح. فكما أن سقوط المكلا كان نتاج فراغ بنيوي طويل، جاء تحريرها نتيجة استعادة منضبطة لفكرة الدولة، لا بوصفها سلطة قهر، بل بوصفها منظومة أمن وخدمة وثقة.
في هذا التحول، لعبت القوات المسلحة الإماراتية دورًا حاسمًا، ليس فقط من حيث الإسناد العسكري المباشر، بل من حيث إعادة تعريف طبيعة التدخل نفسه. فالمقاربة التي اعتمدتها أبوظبي لم تنطلق من فرض السيطرة، بل من بناء قوة محلية قادرة على حمل عبء الأمن، والانتصار، ثم الاستمرار. ومن هنا، لم يكن تشكيل قوات النخبة الحضرمية خطوة تكتيكية، بل لحظة مفصلية في إعادة هندسة الأمن المحلي.
قوات النخبة الحضرمية لم تُبنَ كقوة رديفة أو مؤقتة، بل كجسم أمني–عسكري من أبناء المحافظة، يرتكز على التدريب والتأهيل والانضباط، ويستند إلى عقيدة أمنية قوامها حماية المجتمع لا إخضاعه. هذا البعد كان جوهريًا في كسر الفجوة النفسية التي خلّفها انهيار المؤسسات السابقة، إذ أعاد للمجتمع الشعور بأن من يحمل السلاح باسمه هو جزء منه، لا قوة غريبة عنه. وفي هذا السياق، جاء الدور الإماراتي بوصفه داعمًا وممكّنًا، وفّر التدريب، والتسليح، والخبرة العملياتية، دون أن يصادر القرار المحلي أو يلغي القيادة الوطنية.
القيادة الميدانية للعملية شكّلت عنصرًا حاسمًا في نجاح التحرير. فقد جرى التنسيق تحت قيادة اللواء أحمد سعيد بن بريك، محافظ حضرموت آنذاك، واللواء فرج سالمين البحسني، قائد المنطقة العسكرية الثانية، في نموذج أظهر تلاقي السلطة المحلية مع القيادة العسكرية ضمن إطار واحد. هذا التلاقي أنهى حالة الازدواج التي سادت قبل 2015، ووفّر وضوحًا في القرار وسلسلة القيادة، وهو ما افتقدته المدينة في لحظة السقوط. الدور الإماراتي هنا لم يكن بديلًا عن القيادة المحلية، بل مظلة دعم وتنسيق، عززت قدرة هذه القيادة على الفعل والحسم.
على المستوى العملياتي، وفّرت الإمارات إسنادًا جويًا ولوجستيًا واستخباراتيًا مكّن القوات المحلية من التحرك بثقة وسرعة. لم يكن الهدف استنزافًا طويلًا أو معارك مفتوحة داخل المدينة، بل حسمًا نظيفًا يقلل الكلفة البشرية ويمنع إعادة إنتاج الفوضى. هذا الأسلوب عكس فهمًا دقيقًا لطبيعة المعركة، حيث لم يعد التنظيم يمتلك حاضنة اجتماعية تحميه، ولم يعد المجتمع مستعدًا لتحمل كلفة استمرار الحكم المسلح.
غير أن الأهمية الحقيقية لهذا الدور لم تتجلى فقط في لحظة التحرير، بل فيما تلاها. فالتجارب السابقة في اليمن والمنطقة أظهرت أن التحرير دون بناء ما بعده يفتح الباب لفراغ جديد، قد يكون أشد خطرًا. هنا تحديدًا، اتسع الدور الإماراتي من المجال العسكري إلى المجالين الأمني والمجتمعي، في محاولة واعية لإغلاق دائرة العنف لا تدويرها.
بدأ ذلك بإعادة تأهيل المؤسسات الحيوية التي تعطلت خلال فترة سيطرة التنظيم، وعلى رأسها مطار الريان وميناء المكلا، بما أعاد ربط المدينة بمحيطها، وأنهى عزلتها القسرية. لم تكن هذه الخطوات ذات طابع خدمي فقط، بل حملت دلالة سياسية ونفسية، مفادها أن المدينة عادت إلى الحياة الطبيعية، وأن الدولة، بوظائفها الأساسية، استعادت حضورها. بالتوازي مع ذلك، جرى تنفيذ برامج دعم إنساني وإغاثي، ورعاية للأسر الفقيرة والمتضررة، في مقاربة ربطت الأمن بالمعيشة، والاستقرار بالحد الأدنى من العدالة الاجتماعية.
الأهم من ذلك كله كان تنفيذ خطة أمنية صارمة ولكن غير استعراضية، أعادت ضبط السلاح، وأنهت المظاهر المسلحة، وأعادت تعريف العلاقة بين الأمن والشارع. اختفاء المظاهر المخلة بالأمن لم يكن نتيجة خوف، بل نتيجة ثقة متراكمة في قدرة الأجهزة الجديدة على الحماية دون ابتزاز. هذه الثقة، التي بُنيت عبر التدريب المستمر والتأهيل والانضباط، أعادت للمجتمع شعوره بالاطمئنان، وكسرت الحلقة التي تربط الأمن بالقمع.
انعكس هذا التحول سريعًا على حياة المواطنين. عادت الحركة التجارية، واستؤنفت الأنشطة الاجتماعية، وتحوّلت المكلا والمدن الساحلية إلى ملاذ نسبي للفارين من مناطق النزاع الأخرى في اليمن والجنوب. هذا التحول لم يكن دعائيًا، بل مؤشرًا عمليًا على نجاح نموذج أمني مختلف، يقوم على تمكين الفاعل المحلي، ودعم خارجي منضبط، وشراكة واضحة بين المجتمع ومؤسساته.
بهذا المعنى، لم يكن تحرير المكلا نهاية فصل من الصراع، بل بداية فصل جديد في فهم كيفية تفكيك التنظيمات المسلحة. فقد أثبتت التجربة أن القوة وحدها لا تحسم، وأن الأمن لا يُستورد جاهزًا، بل يُبنى محليًا بدعم ذكي، وأن استعادة ثقة المجتمع هي المعركة الحقيقية التي تلي المعركة العسكرية. وهذا الدرس، الذي تكرّس في الساحل الحضرمي، يتجاوز حدود المكلا ليطرح نموذجًا قابلًا للنقاش والتطبيق في بيئات مشابهة، حيث لا يكفي إسقاط الخطر، بل يجب منع عودته.
النتائج والاستنتاجات
تكشف تجربة المكلا، من سقوطها في عام 2015 إلى استعادتها واستقرارها اللاحق، عن مسار متكامل لفهم ديناميات الصراع في البيئات الهشّة، حيث لا يُقاس ميزان القوة بعدد المقاتلين أو حجم السلاح بقدر ما يُقاس بقدرة الفاعلين على إدارة الفراغ، وبناء الشرعية، واستعادة ثقة المجتمع. فالمكلا لم تسقط لأنها مدينة ضعيفة، بل لأنها كانت جزءًا من دولة تراجعت عن وظائفها الأساسية، وتركت مؤسساتها بلا قرار، ومجتمعها بلا حماية.
تُظهر هذه التجربة أن التنظيمات المسلحة غير الدولتية لا تنجح لأنها أقوى عسكريًا، بل لأنها أكثر قدرة على قراءة لحظات الانهيار المؤسسي، واستثمار التردد، وتحويل الصمت القيادي إلى فرصة. فقد دخل تنظيم القاعدة المكلا دون معركة حاسمة، لا لأنه امتلك تفوقًا ساحقًا، بل لأن الدولة كانت قد انسحبت ذهنيًا قبل أن تنسحب ميدانيًا. هذا الدرس يظل صالحًا لكل البيئات التي تعاني من ازدواج القرار، وتفكك الولاء، وغياب المرجعية.
في المقابل، يقدّم تحرير المكلا نموذجًا مغايرًا لكيفية تفكيك الحكم المسلح، لا عبر الاستنزاف المفتوح، بل عبر كسر شروط استمراره. فقد أثبتت التجربة أن التنظيم، مهما بدا متماسكًا في لحظة السيطرة، يظل هشًا حين يفقد الحاضنة الاجتماعية، ويُواجَه بقوة محلية تمتلك الشرعية والمعرفة بالسياق، ومدعومة بإسناد خارجي منضبط لا يصادر القرار الوطني. إن تمكين الفاعل المحلي، كما تجلّى في تشكيل قوات النخبة الحضرمية، شكّل حجر الزاوية في تحويل المعركة من صراع عسكري إلى عملية استعادة للدولة بوظيفتها الأمنية والخدمية.
الأهم من ذلك أن ما بعد التحرير كان العامل الفاصل بين نجاح مستدام وعودة محتملة للفوضى. فإعادة بناء الأمن، وتأهيل المؤسسات، وإنهاء المظاهر المسلحة، وربط الاستقرار بالخدمات والتنمية، أسهمت في إعادة تعريف العلاقة بين المجتمع والأمن. لم يعد الأمن مصدر خوف، بل إطار حماية، ولم تعد السلطة قوة مفروضة، بل شراكة تُقاس بقدرتها على توفير الحياة الطبيعية. هذا التحول هو ما منع إعادة إنتاج التنظيم بأشكال جديدة، وأغلق الباب أمام خطاب “البديل” الذي تتغذى عليه الجماعات المتطرفة.
من منظور أوسع، تؤكد تجربة المكلا أن المعركة مع التنظيمات المسلحة ليست معركة واحدة، بل سلسلة مترابطة من المراحل: سقوط، حكم، تحرير، ثم بناء. الفشل في أي مرحلة يفتح الطريق لعودة الخطر، حتى وإن تغيرت الأسماء والرايات. كما تُبرز التجربة أن الأمن لا يُستورد جاهزًا، ولا يُفرض بالقوة وحدها، بل يُبنى محليًا، ويُحمى بالثقة، ويُصان بالاستمرارية.
بين عامي 2015 و2025، تحوّلت المكلا من رمز لانهيار الدولة إلى نموذج نسبي للاستقرار في بيئة مضطربة. هذا التحول لا يعني نهاية التحديات، لكنه يقدّم درسًا عمليًا في أن تفكيك التطرف يبدأ بإعادة بناء الدولة من الأسفل، لا بترميمها شكليًا من الأعلى. وفي سياق يمني وإقليمي لا يزال مفتوحًا على احتمالات الفوضى، تظل المكلا شاهدًا على أن الخطر يمكن احتواؤه، ليس بالقوة المجردة، بل بإعادة الاعتبار للإنسان، والمؤسسة، والمجتمع بوصفهم خط الدفاع الأول.
وتُظهر تجربة تحرير المكلا وما تلاها بوضوح أن الدور الذي اضطلعت به دولة الإمارات العربية المتحدة تجاوز الإطار العسكري التقليدي، وانتقل إلى نموذج متكامل في مواجهة التطرف والإرهاب، يقوم على تفكيك أسبابه البنيوية لا الاكتفاء بمواجهة مظاهره المسلحة. فالتجربة لم تُبنَ على منطق الحسم المؤقت، بل على رؤية تعتبر أن الأمن الحقيقي يبدأ من حماية المجتمع، واستعادة ثقته بذاته وبمؤسساته، وربط الاستقرار بمشاريع مستدامة تعالج جذور الهشاشة التي تتغذى منها التنظيمات المتطرفة.
لقد برزت الفاعلية الإماراتية في الساحل الحضرمي من خلال مقاربة متعددة الأبعاد، جمعت بين التمكين العسكري المحلي والدعم اللوجستي والاستخباراتي الدقيق، وبين الاستثمار في بناء الإنسان والمؤسسة. فمحاربة التطرف، كما عكستها هذه التجربة، لم تُختزل في إسقاط تنظيم مسلح، بل في منع إعادة إنتاج البيئة التي تسمح بعودته، سواء باسم القاعدة أو بأي مسمى آخر. ومن هنا، شكّل بناء قوات محلية محترفة، مثل قوات النخبة الحضرمية، حجر الأساس في إعادة هندسة الأمن، بوصفه أمنًا نابعًا من المجتمع، لا مفروضًا عليه.
في الوقت نفسه، اتخذت الإمارات من إعادة تأهيل البنية التحتية والمؤسسات الحيوية مسارًا موازيًا للمسار الأمني، إدراكًا منها أن الفراغ الخدمي لا يقل خطرًا عن الفراغ الأمني. فإعادة تشغيل مطار الريان، وتأهيل ميناء المكلا، وتنفيذ مشاريع خدمية وتنموية، إلى جانب برامج الإغاثة ورعاية الأسر الفقيرة، لم تكن خطوات إنسانية معزولة، بل جزءًا من استراتيجية شاملة تهدف إلى إعادة دمج المجتمع في دورة الحياة الطبيعية، وتجفيف منابع التطرّف المرتبطة بالفقر واليأس وانسداد الأفق.
تعكس هذه المقاربة فهمًا متقدمًا لطبيعة الصراع مع التنظيمات المتطرفة، حيث لا يمكن فصل الأمن عن التنمية، ولا يمكن فرض الاستقرار بالقوة المجردة. فالفاعلية الإماراتية، كما تجلّت في حضرموت، قامت على مبدأ أن حماية المجتمع هي خط الدفاع الأول، وأن بناء الثقة بين المواطن والمؤسسة الأمنية هو الضمانة الأكثر استدامة لمنع عودة العنف. وقد انعكس هذا الفهم في التحول النوعي الذي شهدته المكلا، من مدينة خاضعة لتنظيم إرهابي إلى فضاء آمن نسبيًا، استعاد دوره الاقتصادي والاجتماعي، وأصبح ملاذًا للمدنيين الفارين من مناطق النزاع الأخرى.
وبذلك، لا تمثل تجربة المكلا مجرد نجاح أمني مرحلي، بل تقدم نموذجًا قابلًا للتأمل في كيفية تحويل الحرب على الإرهاب من معركة استنزاف مفتوحة إلى عملية بناء طويلة الأمد، تُدار بعقلية الدولة لا بردود الفعل. نموذج يؤكد أن مواجهة التطرف لا تتحقق فقط بإسقاط السلاح من يد المتطرف، بل بسحب المبررات التي تدفع المجتمع إلى القبول به أو التعايش معه.
في المحصلة، تُبرز هذه التجربة أن الدور الإماراتي في حضرموت أسّس لمعادلة جديدة في مكافحة الإرهاب، قوامها الشراكة مع الفاعل المحلي، والاستثمار في الإنسان، وربط الأمن بالتنمية المستدامة. وهي معادلة لا تحمي المدن المحررة فحسب، بل تضع أسسًا أكثر صلابة لمستقبلٍ أقل قابلية لاختراق العنف والتطرف، في اليمن والجنوب على حد سواء.
المصادر والهوامش
اعتمدت هذه الورقة على مجموعة من التقارير والدراسات التحليلية المنشورة في مؤسسة اليوم الثامن للإعلام والدراسات، إلى جانب مواد مرجعية ومصادر مفتوحة من مواقع محلية أخرى ذات صلة بالسياقين الأمني والمجتمعي في حضرموت. كما تستند الورقة إلى خلاصة جهد تراكمي لفريق من الباحثين والمراسلين الميدانيين، الذين أسهموا في جمع المعطيات، ورصد التحولات، وتقديم الإفادات والشهادات غير المباشرة التي دعمت التحليل وساعدت الباحث على بلورة هذه الخلاصة في إطارها التحليلي.
ولا تعبّر النتائج الواردة في هذه الدراسة عن سردٍ توثيقيٍّ محض، بقدر ما تمثل قراءة تحليلية مركّبة، جرى بناؤها على تقاطع المصادر المكتوبة مع العمل الميداني، في محاولة لتقديم فهم أعمق لديناميات الصراع، والتحرير، وإعادة بناء الأمن في الساحل الحضرمي.



