تقدير موقف

الثابت والمتحول في العلاقات السعودية – الإيرانية للفترة 2015- 2025

ملخص:

تهدف هذه الدراسة إلى تحليل ديناميكيات العلاقات السعودية–الإيرانية خلال الفترة من 2015 إلى 2025، من خلال التركيز على ثنائية “الثابت والمتحول” في هذه العلاقات. تعدّ هذه العلاقات من أكثر العلاقات الإقليمية تعقيدًا وتأثيرًا في الشرق الأوسط، حيث تتداخل فيها العوامل المذهبية والجيوسياسية والاقتصادية. منذ عام 2015، دخلت العلاقات بين البلدين مرحلة من التوترات الحادة، تجلت في القطيعة الدبلوماسية وتصاعد حدة الصراع في عدة ساحات إقليمية، خصوصًا في اليمن وسوريا ولبنان والعراق. ومع ذلك، شهدت هذه العلاقة تحولات ملحوظة، لاسيما مع إعادة فتح القنوات الدبلوماسية في مارس 2023 بوساطة صينية.

الكلمات المفاتيح: الثابت – المتحول – المملكة العربية السعودية –  جمهورية ايران الإسلامية .

Summary:
This study aims to analyze the dynamics of Saudi–Iranian relations during the period from 2015 to 2025, focusing on the duality of “the constant and the changing” within these relations. The Saudi–Iranian relationship is considered one of the most complex and influential regional relationships in the Middle East, as it is shaped by intertwined sectarian, geopolitical, and economic factors. Since 2015, the two countries have entered a phase of heightened tensions, marked by diplomatic severance and escalating conflicts in several regional arenas, particularly in Yemen, Syria, Lebanon, and Iraq. However, these relations have undergone significant transformations, especially with the reopening of diplomatic channels in March 2023 through Chinese mediation.

Keywords: The Constant – The Changing – Kingdom of Saudi Arabia – Islamic Republic of Iran.

الفصل الأول:

الإطار الاجرائي والنظري

المبحث الأول:

الإطار الاجرائي

تمثل العلاقات السعودية–الإيرانية واحدة من أكثر العلاقات الإقليمية تعقيدًا وتأثيرًا في بنية النظام الإقليمي للشرق الأوسط، لمّا تحمله من تداخلات مذهبية وسياسية وجيوسياسية واقتصادية. فمنذ العام 2015، دخلت هذه العلاقات مرحلة توتر غير مسبوق، تجلّت في القطيعة الدبلوماسية، وتصاعد حدة الصراع غير المباشر في عدد من الساحات الإقليمية، خصوصًا في اليمن وسوريا ولبنان والعراق. إلا أن هذه العلاقة لم تكن ثابتة على حال التصعيد، بل شهدت تحولات ملحوظة، لا سيما في مارس 2023، حين أعيد فتح القنوات الدبلوماسية بين الجانبين بوساطة صينية.

ما بين التنافس الجيوسياسي والتهدئة التكتيكية، تتجلى ثنائية “الثابت والمتحول” كمفتاح لفهم طبيعة هذه العلاقة. فهناك محددات ثابتة تحكم السياسة الخارجية لكل من السعودية وإيران، كما أن هناك تحولات فرضتها التغيرات الإقليمية والدولية في العقد الأخير، انعكست على نمط التفاعل بين الدولتين. ومن هنا تنبع أهمية هذه القراءة في تحليل أبعاد العلاقة، واستجلاء ما هو بنيوي ثابت وما هو ظرفي متحول.

  • إشكالية الدراسة

تتمثل إشكالية الدراسة في: “إلى أي مدى شكّلت ثنائية الثبات والتحول في العلاقات السعودية–الإيرانية خلال الفترة 2015–2025 إطارًا لفهم ديناميات التنافس والتقارب بين الطرفين، وما العوامل المؤثرة في انتقال العلاقة من التوتر إلى الانفراج؟”

  • أسئلة الدراسة
  • ما هي المحددات الثابتة التي حكمت العلاقات السعودية–الإيرانية خلال الفترة المدروسة؟
  • ما أبرز التحولات التي طرأت على هذه العلاقات منذ عام 2015 حتى 2025؟
  • كيف ساهمت المتغيرات الإقليمية والدولية في التأثير على نمط العلاقة بين البلدين؟
  • ما دور الملفات الإقليمية (كاليمن وسوريا ولبنان والعراق) في تشكيل مسار العلاقة؟
  • ما السيناريوهات المستقبلية الممكنة لطبيعة العلاقة بين السعودية وإيران في ظل المتغيرات الجارية؟

– أهداف الدراسة

  1. تحليل طبيعة العلاقات السعودية–الإيرانية من منظور الثابت والمتحول خلال الفترة 2015–2025.
  2. تحديد العوامل البنيوية والمؤقتة التي أثّرت في تطور العلاقة بين البلدين.
  3. فهم تأثير الصراعات الإقليمية على نمط التفاعل بين الطرفين.
  4. تقديم تصور علمي للاتجاهات المستقبلية المحتملة للعلاقات السعودية–الإيرانية.
  5. إغناء الأدبيات البحثية المتعلقة بالعلاقات الثنائية في الشرق الأوسط من خلال مقاربة تحليلية مقارنة.

منهجية الدراسة:

تعتمد هذه الدراسة على المنهج الوصفي التحليلي لفحص العلاقات السعودية–الإيرانية خلال الفترة من 2015 إلى 2025، مع التركيز على ثنائية “الثابت والمتحول” في تلك العلاقة. سيتم جمع البيانات من خلال التقارير الإخبارية والدراسات، وتحليل المحتوى الإعلامي والتحليل الوثائقي للمصادر الإعلامية والرسمية، بالإضافة متابعة آراء المتخصصين. وتهدف الدراسة إلى تقديم رؤى حول العوامل التي تؤثر في تحول هذه العلاقات، بما في ذلك الملفات الإقليمية مثل اليمن وسوريا، والتفاعلات الدولية التي شكلت مسار العلاقة بين السعودية وإيران.

فرضيات الدراسة:

فرضية 1:

تأثير العوامل الداخلية على السياسة الخارجية “أن التغيرات السياسية والاجتماعية الداخلية في كل من السعودية وإيران، مثل التغييرات في القيادة السياسية أو التحولات الاجتماعية الكبرى، قد لعبت دوراً مهماً في تشكيل سياسات البلدين الخارجية، مما ساهم في تحولات العلاقة بينهما من التوتر إلى الانفراج.”.

فرضية 2:

دور الإعلام في تشكيل الرأي العام وتوجيه السياسة” أن الإعلام المحلي والعالمي لعب دورًا محوريًا في تشكيل الرأي العام حول العلاقات بين السعودية وإيران، وأن وسائل الإعلام ساهمت بشكل كبير في تحفيز التصعيد أو التهدئة في هذه العلاقة.”

  •  فرضية 3

 العوامل الاجتماعية والثقافية وتأثيرها على السياسة الخارجية : “أن العوامل الاجتماعية والثقافية في كلا البلدين، بما في ذلك التوجهات المذهبية والعرقية، شكلت جزءاً من المحددات الثابتة التي أدت إلى توترات مستمرة ولكنها أيضًا ساعدت في إمكانية الوصول إلى توافقات وقت الحاجة.”

  • فرضية 4

أن المتغيرات الإقليمية (مثل الصراع في اليمن وسوريا) قد أثرت على طبيعة العلاقة بين السعودية وإيران، حيث شكلت هذه الملفات ساحة رئيسية لتوجيه السياسة بين الدولتين، لكنها أيضًا خلقت مساحات للتفاوض والتسوية.”

الإطار الموضوعي والزمني للدراسة

  1. الإطار الموضوعي:

يتعلق الإطار الموضوعي بالدراسة بالعلاقات الثنائية بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية في الفترة من 2015 إلى 2025. سيتم التركيز على دراسة تأثير ثنائية “الثابت والمتحول” في هذه العلاقات، مما يتيح فحص العوامل الثابتة في السياسة الخارجية لكلا البلدين وكذلك التحولات التي فرضتها التغيرات الإقليمية والدولية.

العوامل الموضوعية الرئيسية التي سيتم تناولها:

  1. الثابت:
  2. التنافس الإقليمي على القيادة في منطقة الخليج والشرق الأوسط.
  3. النزاع المذهبي بين السنة والشيعة وتأثيره على العلاقات.
  4. التوجهات الاستراتيجية نحو الأمن الإقليمي (مثل الأمن البحري، المعاهدات الإقليمية).
  5. المصالح السياسية والاقتصادية المشتركة التي تظل ثابتة رغم التحولات.
  6. المتحول:
  7. التغيرات الداخلية في كل من السعودية وإيران (مثل التغييرات في القيادة السياسية، التحولات الاجتماعية).
  8. التحولات في السياسة الخارجية نتيجة الأحداث الإقليمية (مثل الصراعات في اليمن وسوريا ولبنان).
  9. التحولات التي أثرت على علاقات البلدين عبر الوساطات الدولية (مثل الوساطة الصينية في عام 2023).
  10. تأثير التدخلات الدولية الأخرى (مثل السياسة الأمريكية، الروسية، أو الأوروبية في الشرق الأوسط).
  11. الملفات الإقليمية:
  12.  النزاع في اليمن وأثره على العلاقات بين السعودية وإيران.
  13.  الصراع السوري وتدخلات كل من السعودية وإيران في هذا السياق.
  14. تأثير حزب الله والعلاقات الإيرانية-السعودية في لبنان.
  15.  النزاع السياسي والديني في العراق وتأثيره على السياسة السعودية-الإيرانية.
  16. الصراع في الاراضي المحتلة
  17. التفاعلات الدبلوماسية:

تأثير الوساطات الدولية مثل الوساطة الصينية ونتائج إعادة فتح القنوات الدبلوماسية بين البلدين.

  • التوقعات المستقبلية:

استكشاف سيناريوهات محتملة للعلاقات بين البلدين بناءً على المتغيرات الإقليمية والدولية.

ثانيا: الإطار الزمني:

الإطار الزمني للدراسة يمتد من 2015 إلى 2025، وهو يشمل عقدًا حاسمًا من التوترات والتحولات التي شهدتها العلاقات بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية.

  1. 2015:  بداية التوترات الكبرى

بداية الصراع الإقليمي وتدهور العلاقات مع اندلاع الحرب في اليمن. تصاعد التوترات المذهبية بعد قطع العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران.

  •  2016-2019: التصعيد المستمر

تكثف التوترات الإقليمية والحروب بالوكالة في سوريا واليمن والعراق. أيضًا، كان عام 2016 عامًا حاسمًا مع حادثة إعدام الشيخ نمر النمر وقطع العلاقات الدبلوماسية.

  • 2020-2022:  حالة من الاستمرار في التوترات:

في هذه الفترة، تواصلت الصراعات في اليمن وسوريا، وتم توجيه الخطاب الإعلامي بين الطرفين بشكل حاد، مع استمرار الدعم الإيراني للحوثيين وحزب الله. ظهور الملف النووي الإيراني كمحور رئيسي في العلاقات الدولية.

  • 2023: بداية التغيير ووساطة الصين

في مارس 2023، كان هناك تحول ملحوظ في العلاقات مع استئناف المحادثات بين البلدين تحت الوساطة الصينية. هذه خطوة هامة نحو تهدئة التوترات.

  • 2024-2025: مرحلة الانفراج؟

في هذه الفترة، ستكون الدراسة تستكمل تأثير نتائج التهدئة بعد إعادة فتح القنوات الدبلوماسية. كما سيتم دراسة التحديات والفرص التي قد تؤثر على العلاقات بين البلدين في سياق التغيرات الاقتصادية والسياسية العالمية.

ثالثا: الإطار الزمني بشكل محدد:

  • يناير 2015 (بداية التصعيد الكبير).
  • ديسمبر 2025 (نهاية الفترة المحددة في الدراسة، وقد تكون هذه الفترة الزمنية قابلة للتعديل بناءً على تطور الأحداث).

ثالثا: التفاعل بين الموضوع والزمن:

منذ عام 2015، شهدت العلاقات السعودية-الإيرانية تحولات دراماتيكية نتيجة للتغيرات الإقليمية والعالمية. على الرغم من التغيرات، هناك بعض الثوابت التي تمسك بها كل من السعودية وإيران (مثل التوجهات الاستراتيجية تجاه الأمن الإقليمي والمصالح السياسية).

  1. الملفات الإقليمية:

الأحداث في اليمن وسوريا والتهديدات الإيرانية المستمرة للمصالح السعودية في هذه الملفات ستعكس كيف يمكن أن تظل بعض الملفات ثابتة رغم التحولات السياسية. كذلك، سيساهم التدخل الإيراني في هذه الساحات في إبراز العوامل المتغيرة في العلاقات الثنائية.

  • الوساطة الصينية:

في عام 2023، كان لإعادة فتح القنوات الدبلوماسية بوساطة صينية تأثير على طبيعة العلاقات بين البلدين، وهو تطور حديث يمكن أن يكون له تأثير مستمر على الديناميكيات بين السعودية وإيران خلال السنوات القادمة.

  • السيناريوهات المستقبلية:

السيناريو الأول: “استمرار التوترات مع الحفاظ على مواقف متباينة في الملفات الإقليمية، مما يحول دون حدوث انفراج حقيقي في العلاقة.”

السيناريو الثاني: “تصاعد التوترات إلى مستويات أكثر خطورة بسبب التأثيرات الداخلية والدولية، مما قد يؤدي إلى انزلاق أكبر في صراع إقليمي.”

السيناريو الثالث: “تحقيق انفراج تدريجي على صعيد العلاقة الثنائية في ظل التحولات الإقليمية والدولية، خاصة مع الضغوط الاقتصادية والسياسية على كلا الطرفين.”

المبحث الثاني:

الإطار النظري

تعزيز الإطار النظري: تحليل المدارس النظرية في العلاقات الإيرانية-السعودية

عند دراسة العلاقات بين إيران والسعودية، من المفيد أن نُعزز الدراسة باستخدام الإطار النظري في علم العلاقات الدولية. كل نظرية تقدم طريقة لفهم سلوك الدول ومواقفها تجاه بعضها البعض، وفي هذا السياق يمكننا الاستفادة من الواقعية، البنائية، والليبرالية. هذه النظريات لا تقتصر فقط على تفسير سلوكيات الدول، بل تساعد أيضًا في تقديم حلول سياسية واستراتيجية للعلاقات الدولية.

ناقش منظورا السياسية النظريات والنظم السياسية المتبعة بتسلسل متعلق في كيفية تأثير النظام الاقتصادي العالمي على السياسة الوطنية والدولية. ويروا أن الاقتصاد قد يؤثر على السياسة، وأن بعض النتائج السياسية لها أسباب اقتصادية. وبين، إن النظرية السياسية الدولية تخبرنا عن السياسات الخارجية للدول، وعن تفاعلاتها الاقتصادية وغيرها، وأن النظرية الخاصة بالاقتصاد الدولي قد تخبرنا شيئاً عن السياسة، والعكس بالعكس، وهو لا يعني أن أياً من النظريتين يمكن أن تحل محل الأخرى[1].

الواقعية (Realism)

المفهوم الأساسي: الواقعية هي مدرسة فكرية في العلاقات الدولية تركز على أن الدولة هي الفاعل الرئيسي في السياسة الدولية وأنها تعمل بشكل أساسي على تأمين مصالحها الوطنية عبر تعزيز قوتها العسكرية والاقتصادية. في إطار النظرية الواقعية، يُفترض أن الأنظمة الدولية غير مستقرة، وتواجه الدول فيها التنافس المستمر على السلطة والنفوذ. تقوم الدول بتطوير استراتيجيات تُعزز من قدرتها على البقاء (من خلال الردع وموازين القوى) في مواجهة تهديدات خارجية وداخلية.[2]

الواقعية في العلاقات الإيرانية-السعودية:

بين إيران والسعودية، يمكن تطبيق النظرية الواقعية بشكل واضح، حيث يُعد التنافس على الهيمنة الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط هو العنصر الرئيسي في سلوك البلدين. يُظهر هذا التنافس في عدة مجالات:

  • التنافس على النفوذ في العراق وسوريا واليمن: بعد الغزو الأمريكي للعراق، سعت إيران لتوسيع نفوذها هناك، مما أدى إلى دعم ميليشيات موالية لها. من جهة أخرى، تدعم السعودية قوى معارضة لإيران في نفس المنطقة.
  • البرنامج النووي الإيراني: في الوقت الذي تسعى فيه إيران لتطوير قدراتها النووية لتعزيز قوتها العسكرية والإقليمية، تُعتبر السعودية هذه الخطوة تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي. وبالتالي، تظهر التوترات في منطقة الخليج العربي كنتيجة مباشرة لمثل هذه السياسات التي تُعتبر تحديًا للميزان العسكري الإقليمي.[3]

المفاهيم الأساسية المتعلقة بالواقعية في هذا السياق:

ميزان القوى:

 هو مفهوم رئيسي في السياسة الدولية يُعبر عن سعي الدول إلى ضمان تفوقها العسكري على جيرانها أو المنافسين من أجل الحفاظ على استقرارها الأمني وتعزيز قدرتها على التأثير في المنطقة. في هذا السياق، تسعى كل من إيران والسعودية بشكل مستمر إلى زيادة قوتها العسكرية لضمان الهيمنة الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط. ففي حين تركز السعودية على تعزيز قدراتها الدفاعية من خلال التحالفات العسكرية مع الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة والدول الخليجية، فإن إيران تركز على تطوير قدراتها العسكرية الذاتية وتعزيزها من خلال تقنيات متقدمة، مثل الأسلحة النووية والقوة الصاروخية. هذا التنافس بين الدولتين يشكل جزءًا من صراع طويل الأمد على النفوذ الإقليمي والقدرة على التأثير في مجريات الأحداث السياسية والأمنية في المنطقة.

الردع :

هو مفهوم آخر يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمفهوم ميزان القوى. إيران تتبنى سياسة الردع العسكري من خلال تطوير قدراتها النووية، التي تُعتبر عاملًا مهمًا في ضمان قدرتها على مواجهة التهديدات المحتملة من الدول الكبرى أو جيرانها في المنطقة. كما تُعزز إيران هذه الاستراتيجية من خلال تطوير القوة الصاروخية، مما يسمح لها بالرد الفوري في حال حدوث تهديد عسكري. من جهة أخرى، السعودية تعتمد على التحالفات العسكرية لتوفير الردع في مواجهة إيران. فمن خلال علاقتها الوثيقة مع الولايات المتحدة والدول الخليجية، تضمن السعودية وجود دعم عسكري قوي في حال تعرضها لأي تهديدات إيرانية.

 الاحتواء:

 فهو استراتيجية تسعى من خلالها الدول إلى الحد من نفوذ دول أخرى في المنطقة. السعودية تسعى إلى احتواء نفوذ إيران من خلال تحالفاتها مع القوى الغربية مثل الولايات المتحدة، حيث تسعى إلى وضع حواجز استراتيجية في وجه توسع النفوذ الإيراني في مناطق مثل اليمن والعراق وسوريا. في المقابل، إيران تركز على تعزيز قوتها العسكرية عبر دعم حلفائها في المنطقة، مثل حزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن، وهو ما يساعدها في تأكيد وجودها ونفوذها في المنطقة. استراتيجية الاحتواء هذه تُعد من الاستراتيجيات الرئيسة التي تستخدمها السعودية للحد من توسع إيران في الشرق الأوسط.

إجمالاً، يمكن القول إن ميزان القوى، والردع، والاحتواء هي مفاهيم متداخلة تلعب دورًا رئيسيًا في تحديد سياسات إيران والسعودية في سعيهما لضمان الهيمنة الإقليمية والأمن الوطني.

  • البنائية (Constructivism)

المفهوم الأساسي للبنائية يكمن في التأكيد على دور الهوية واللغة والاعتقادات الثقافية في تشكيل سلوك الدول في الساحة الدولية. وفقًا لهذه النظرية، لا يمكن فهم العلاقات بين الدول فقط من خلال العوامل المادية والاقتصادية، بل يجب أيضًا النظر إلى العوامل الاجتماعية والثقافية التي تؤثر بشكل عميق على كيفية تفاعل الدول مع بعضها البعض. البنائية، التي نشأت كرد فعل على النظريات الواقعية والليبرالية، تركز على الهوية الوطنية أو الهوية القومية كعامل رئيسي يؤثر في تحديد سلوك الدول، معتبرة أن هذه الهوية تُبنى وتُعاد تشكيلها من خلال التفاعلات الاجتماعية بين الدول المختلفة.

من خلال هذا المنظور، فإن الدول لا تتصرف فقط بناءً على مصلحة مادية محددة مثل الاقتصاد أو القوة العسكرية، بل أيضًا بناءً على التصورات والمفاهيم التي تطورها عن نفسها وعن الآخرين. على سبيل المثال، قد ترى دولة ما نفسها على أنها مدافعة عن قيم دينية أو ثقافية معينة، وهذا يشكل سلوكها في التفاعل مع الدول الأخرى.

الركيزة الأساسية للبنائية هي أن الهوية التي تبنيها الدول من خلال هذه التفاعلات تؤثر بشكل مباشر على تصرفاتها في الساحة الدولية. فالدولة التي ترى نفسها كمحور للهوية الدينية أو الثقافية قد تدخل في صراعات أو تحالفات بناءً على تلك الهويات، وليس فقط بناءً على التوازنات المادية. في هذا السياق، يمكن ملاحظة كيف تتأثر العلاقات بين إيران والسعودية على سبيل المثال ليس فقط بالنزاع على النفوذ الإقليمي أو الاقتصاد، ولكن أيضًا بسبب التنافس بين الهوية الشيعية والسنية، حيث يُشكل هذا التباين الهوية الخاصة بكل منهما ويُؤثر على استراتيجياتهما السياسية والإقليمية.

إذن، البنائية تعتبر أن الهوية الثقافية والدينية هي الأساس في تشكيل سلوك الدول، حيث تلعب دورًا أكبر من مجرد الاعتبارات المادية أو العسكرية في تفسير العلاقات الدولية.

الهوية الإيرانية والسعودية:

تعتبر إيران، كونها دولة ذات غالبية شيعية، نفسها المدافع الأول عن الشيعة في العالم الإسلامي، وهي تسعى جاهدة لتوسيع نفوذها الإقليمي والعالمي من خلال تأكيد دورها كحامية لهذه الطائفة. لطالما رأت إيران في نفسها القوة الإقليمية التي تتولى المسؤولية التاريخية في حماية حقوق الشيعة في مختلف دول العالم، من العراق وسوريا إلى لبنان واليمن، ما يساهم في تعزيز موقفها كقوة إقليمية مؤثرة. هذا الدور لا يتوقف فقط على التوجهات الدينية، بل يمتد إلى السياسة، حيث تبني إيران تحالفات استراتيجية مع الحركات الشيعية المسلحة التي تسعى لتحقيق نفوذ سياسي وعسكري في المناطق التي تمثل محط اهتمامها. ومن خلال هذه الديناميكية، تستفيد إيران من تعزيز استقلالها الإقليمي وتوسيع دائرة تأثيرها على المستوى الدولي.

في المقابل، تُعتبر السعودية الحاملة الرسمية للواء السنة في العالم الإسلامي، وهو ما يضعها في قلب التنافس الإقليمي مع إيران. تعزز السعودية هذه الهوية السنية من خلال مسؤوليتها الدينية والروحية في إدارة الحرمين الشريفين في مكة والمدينة، وهو ما يمنحها مكانة قيادية فريدة في العالم الإسلامي. يعتبر الحرمان الشريفان رمزين دينيين هامين بالنسبة للسنة، مما يضع السعودية في موقع القيادة السنية ويمنحها قاعدة جماهيرية واسعة داخل الدول ذات الغالبية السنية. تسعى المملكة من خلال هذه الهوية إلى تعزيز دورها في قيادة الأمة الإسلامية، وترسيخ موقفها في الساحة الإقليمية والدولية كحامية للسنة، خصوصًا في مواجهة التمدد الشيعي الذي تقوده إيران. هذا التنافس بين البلدين ليس مقتصرًا فقط على التنافس الديني، بل يتداخل مع الأبعاد السياسية، الاقتصادية والأمنية في المنطقة، مما يجعل المنطقة واحدة من أكثر بؤر الصراع تعقيدًا في العالم.

التفاعل بين الهويات الإيرانية والسعودية:

يُعد التنافس بين إيران والسعودية من أبرز مظاهر الصراع الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط، حيث يتجاوز هذا التنافس مجرد نزاع على النفوذ السياسي والاقتصادي، ليأخذ طابعًا إيديولوجيًا عميقًا، يتجلى في الاختلافات الطائفية بين البلدين. فإيران، باعتبارها دولة شيعية ذات تاريخ طويل في دعم الطائفة الشيعية، ترى في نفسها المدافع الأول عن الشيعة في العالم الإسلامي، وتسعى لتوسيع نفوذها عبر تحالفات مع الميليشيات الشيعية في مختلف البلدان العربية، مثل العراق وسوريا واليمن. أما السعودية، فهي الدولة السنية الرئيسية في العالم الإسلامي، وتعتبر نفسها حامية الهوية السنية ومشرفًا على الحرمين الشريفين في مكة والمدينة، ما يضعها في صراع مستمر مع إيران حول القيادة الدينية والسياسية في العالم الإسلامي. وفي هذا السياق، يظهر التنافس المذهبي بشكل واضح في عدة ملفات إقليمية، على رأسها اليمن، حيث تدعم إيران الحوثيين الشيعة، بينما تدعم السعودية الحكومة اليمنية السنية. هذا التنافس لا يقتصر على اليمن فحسب، بل يمتد ليشمل العراق، حيث يسعى الطرفان للسيطرة على النفوذ، وسوريا التي تُعد ساحة معركة لفرض هيمنة كل منهما. يتسبب هذا الصراع المذهبي في تعميق الهوة بين الدولتين، ويعقد أي مساعٍ للتعاون أو التسوية، حيث تُصعد كل دولة مواقفها العسكرية والسياسية، ما يؤدي إلى حالة من اللا استقرار الإقليمي ينعكس سلبًا على أمن المنطقة بأسرها.

المفاهيم الأساسية المتعلقة بالبنائية:

الهوية بين إيران والسعودية تشكل أحد العوامل المحورية في التنافس بينهما، حيث تعكس هذا التمايز الثقافي والطائفي العميق الذي يؤثر بشكل كبير على العلاقات بين البلدين. إذ تتبنى إيران هوية شيعية تتجذر في تاريخها السياسي والديني، وتسعى إلى نشر هذه الهوية على مستوى الإقليم من خلال تحالفاتها مع الحركات والمليشيات الشيعية في عدة دول، بما في ذلك العراق وسوريا واليمن. أما السعودية، فهي تدافع عن هوية سنية قوية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالحرمين الشريفين، ما يجعلها رمزًا للمذهب السني في العالم الإسلامي، ويضعها في حالة تنافس دائم مع إيران على زعامة العالم الإسلامي.

أما فيما يتعلق بالمنظومة الإقليمية، فإن الشرق الأوسط يُعد ساحة رئيسية لتشكيل الهويات والكتل السياسية، حيث تتنافس إيران والسعودية على الهيمنة الإقليمية وتشكيل الأطر السياسية التي تلائم رؤاهما الثقافية والدينية. تسعى إيران إلى خلق تحالفات تسهم في تعزيز نفوذها، مثل التحالفات مع حزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن، بينما تحاول السعودية بناء كتلة إقليمية سنية تعمل على مواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة، مما يجعل المنطقة ساحة نزاع دائم لا تقتصر تداعياته على الدول المعنية فقط، بل يمتد تأثيره ليشمل التوازنات الإقليمية والدولية[4].

  • الليبرالية (Liberalism)

المفهوم الأساسي الليبرالية تعتبر أن التعاون بين الدول يمكن أن يُفضي إلى سلام دائم. الدول لا تتصرف بناءً على قوتها العسكرية فقط، بل تسعى أيضًا لتحقيق منافع اقتصادية وأمن مشترك عبر المنظمات الدولية، الاتفاقيات التجارية، والعمل الجماعي وفقًا لهذه المدرسة، يمكن أن تلعب المؤسسات الدولية دورًا في حل النزاعات وتوسيع التعاون بين الدول.

الليبرالية في العلاقات الإيرانية-السعودية:

رغم التنافس الجيوسياسي الحاد بين إيران والسعودية، إلا أن هناك مجالات واعدة للتعاون يمكن أن تسهم في تهدئة التوترات وتعزيز الاستقرار الإقليمي. في مقدمتها قطاع الطاقة، حيث تُعد كل من السعودية وإيران من كبار منتجي النفط في العالم، ويشكل التنسيق بينهما عاملاً مهمًا لتحقيق استقرار أسواق الطاقة العالمية. كما يمكن للبلدين العمل المشترك في إطار المنظمات الدولية مثل منظمة التعاون الإسلامي لمعالجة تحديات مشتركة كالإرهاب والتطرف، وهي قضايا تهدد استقرار المنطقة برمتها. ويبرز أيضًا مجال أمن الخليج العربي، الذي يمثل شريانًا حيويًا للطاقة والتجارة العالمية، ما يجعل التعاون في ضمان أمنه ضرورة ملحة تتجاوز الخلافات السياسية. وفي حال توفرت الإرادة السياسية، يمكن أن تشكل هذه المجالات نقطة انطلاق نحو بناء الثقة والانخراط في حوارات أوسع تعزز السلام الإقليمي.

المفاهيم الأساسية المتعلقة بالليبرالية:

تشكل المصالح المشتركة، وخاصة الاقتصادية منها، عاملًا مهمًا في إمكانية تخفيف حدة التوترات بين إيران والسعودية. فكلتا الدولتين تعتمد بشكل كبير على صادرات الطاقة وتمتلكان احتياطيات ضخمة من النفط والغاز، ما يتيح لهما فرصًا للتنسيق في السياسات النفطية لتحقيق استقرار السوق العالمية. وعلى صعيد آخر، يفتح التعاون الدولي عبر المنظمات الإقليمية والدولية، مثل منظمة التعاون الإسلامي ومنظمة أوبك، آفاقًا لتنسيق الجهود بشأن قضايا الأمن والطاقة، بما يعزز فرص التقارب ويفرض منطق المصالح المتبادلة بدلًا من التصعيد. إن تفعيل هذه المسارات قد يسهم في بناء أرضية مشتركة تمهّد لحوار أكثر شمولًا حول الملفات الخلافية.[5]

التوصية:

من خلال دمج المدارس الثلاث (الواقعية، البنائية، والليبرالية)، يمكن تحليل العلاقات الإيرانية-السعودية من زوايا متعددة. حيث تُوفر الواقعية فهمًا للتنافس العسكري والاقتصادي بين البلدين، بينما تسهم البنائية في فهم التأثيرات الطائفية والدينية على العلاقات، بينما تقدم الليبرالية خيارات للتعاون والتخفيف من حدة التوترات.

المبحث الثالث:

الدراسات السابقة ومناقشاتها

  1. دراسة “عبد العزيز بن عبد الله بن تركي (2018). العلاقات السعودية–الإيرانية: التوازن الإقليمي وصراع النفوذ. تناول الباحث جذور التنافس السعودي–الإيراني من الثورة الإيرانية 1979 حتى مقاطعة 2016، مع التركيز على الأدوات التي استخدمها الطرفان (الدينية، الإعلامية، والاقتصادية) لبسط النفوذ الإقليمي. سلط الضوء على أن العلاقة محكومة بثوابت أيديولوجية وجيوسياسية، ما يجعل أي تهدئة مؤقتة غير كافية لحدوث تقارب استراتيجي.
  2. دراسة “محمد السلمي (2020). تحولات السياسة الخارجية السعودية في عهد محمد بن سلمان: تركز الدراسة على ما أسماه الباحث بـ”التحول من الدبلوماسية التقليدية إلى دبلوماسية الحزم”، وربطها بتغير أنماط التعامل مع إيران. حللت الدراسة سياسة السعودية في اليمن ولبنان، وأظهرت كيف أن القيادة السعودية باتت تعتمد نهجًا استباقيًا لمواجهة النفوذ الإيراني، لكنه بدأ بالتراجع تدريجيًا مع دخول عام 2023، نتيجة تغير أولويات السعودية الداخلية والضغوط الاقتصادية.
  3. دراسة ” أحمد عبد الله الهاجري (2021). العلاقات السعودية–الإيرانية وأثرها على الأمن الإقليمي الخليجي، ربطت الدراسة بين توتر العلاقات الثنائية وبين تصاعد الهواجس الأمنية في الخليج، خاصة ما يتعلق بسباق التسلح والتدخلات الإيرانية في البحرين والكويت. وخلص الباحث إلى أن التوازن الإقليمي غير ممكن دون تسوية مستدامة بين السعودية وإيران، تتضمن ملفات مثل البحرين واليمن والملف النووي.
  4. International Crisis Group (2023). Saudi–Iranian  Relations: From Confrontation to Détente توثق الدراسة مراحل تطور العلاقة منذ اقتحام السفارة السعودية في طهران (2016)، حتى التوقيع على اتفاق إعادة العلاقات في بكين (مارس 2023). تؤكد على أن الدوافع الاقتصادية، وتغيرات السياسات الأمريكية، كانت عوامل رئيسية دفعت الطرفين إلى التهدئة. كما ركزت على دور الصين كفاعل محوري جديد في التوسط بين القوى الإقليمية.
  5.  Kareem Sadjadpour (2019). Iran and Saudi Arabia: Taming a Chaotic Rivalry اعتبر الباحث أن الخلاف بين السعودية وإيران يتجاوز مجرد نزاع على النفوذ، بل يمثل صراعًا بين رؤيتين للدولة والهوية في الشرق الأوسط. ورأى أن التعايش ممكن، لكنه يتطلب بناء منظومة أمن إقليمي جماعي لا تزال غائبة. استعرض مواقف البلدين من العراق وسوريا، وأظهر كيف تعرقل السياسات الطائفية الوصول إلى توافقات حقيقية.
  6. دراسة “عبد الله النفيسي (2021). الصراع السعودي الإيراني في اليمن: توازن الردع والتدخل الإقليمي، تناول الباحث اليمن كأكثر ملف إقليمي تأثيرًا على العلاقة الثنائية. يرى أن الصراع هناك عكس سياسة “ردع متبادل” بوسائل غير مباشرة، وخلق حالة استنزاف للطرفين. ورغم ذلك، فتح هذا الملف أيضًا نافذة للحوار مع إيران في فترات معينة (مثل وقف إطلاق النار المؤقت عام 2022)، ما يكشف عن طابع متحول مرن للعلاقة.

الفجوة البحثية

رغم تنوع الدراسات السابقة التي تناولت العلاقات السعودية–الإيرانية، إلا أن معظمها ركز على التحليل التاريخي للصراع الممتد منذ الثورة الإيرانية عام 1979 وحتى مرحلة التوترات الحادة التي بلغت ذروتها في 2016، مع اهتمام محدود بمرحلة التحول الإقليمي منذ عام 2023. كما أن العديد من هذه الدراسات تناولت العلاقة من منظور جزئي، سواء من خلال التركيز على ملف إقليمي واحد (مثل اليمن أو سوريا) أو من خلال تحليل دور فاعل خارجي تقليدي (كالولايات المتحدة)، دون التعمق في المستجدات التي أعادت تشكيل بنية العلاقة بين الطرفين.

بناءً عليه، تبرز الحاجة إلى دراسة تحليلية حديثة ترصد الثابت والمتحول في العلاقات السعودية–الإيرانية خلال الفترة (2015–2025)، مع تركيز خاص على مرحلة ما بعد اتفاق بكين في مارس 2023، والتي تمثل نقطة انعطاف مهمة في مسار العلاقة، سواء من حيث السياقات السياسية والدبلوماسية الجديدة، أو من حيث بروز فاعلين دوليين جدد مثل الصين. كما تسعى هذه الدراسة إلى سد فجوة معرفية تتعلق بفهم كيف أثّرت هذه التحولات على الملفات الإقليمية الأربعة المحورية (اليمن، سوريا، لبنان، العراق)، وعلى أنماط التنافس الإقليمي وتوازنات القوى في الشرق الأوسط.

 تمثل الركيزة التي تنطلق منها أي دراسة جديدة، لأنها تُحدد ما لم يتم التطرق إليه أو ما يحتاج إلى تحديث وتحليل أعمق. وفي ضوء مراجعة الدراسات السابقة حول العلاقات السعودية–الإيرانية، وخاصة للفترة (2023–2025)، يمكن تحديد الفجوة البحثية في دراستك كما يلي:

الفجوة البحثية في الدراسة:

رغم كثافة الإنتاج البحثي حول العلاقات السعودية–الإيرانية، فإن معظم الدراسات تركز على:

  1. التحليل التاريخي للصراع  من 1979 حتى 2016 أو 2020
  2. ملف واحد فقط من الملفات الإقليمية (مثل: اليمن أو سوريا فقط).
  3. دور الولايات المتحدة كوسيط أو فاعل أساسي، مع إغفال بروز فاعلين جدد كالصين.
  4. غياب التركيز على مرحلة التحول بعد اتفاق بكين (مارس 2023) كمرحلة مستقلة ذات خصوصية سياسية وجيوإستراتيجية.

وعليه، تتمثل الفجوة البحثية في الآتي:

غياب دراسة تحليلية شاملة ومحدثة ترصد وتفسر التحولات الكبرى في العلاقات السعودية–الإيرانية خلال الفترة 2023–2025، من خلال تحليل مرحلة ما بعد اتفاق بكين، وانعكاساتها على الملفات الإقليمية الساخنة (اليمن، سوريا، لبنان، العراق)، في ظل التغير في موازين القوى الدولية، وتراجع الدور الأمريكي مقابل صعود الدور الصيني.”

الفصل الثاني

المحددات الثابتة والمتحولة في العلاقات السعوديةالإيرانية

خلال الفترة المدروسة (2015-2025)

المبحث الأول:

محددات ثابتة تتجاوز الظرفيات المتغيرة

على امتداد العقد (2015–2025)، ظلت العلاقات السعودية–الإيرانية تدور في فلك تنافس إقليمي معقّد، تحكمه محددات ثابتة تتجاوز الظرفيات المتغيرة . وبرغم التحولات الظرفية التي شابت هذه العلاقات، إلا أن ثمة محددات ثابتة شكلت الخلفية الدائمة لسلوك الطرفين تجاه بعضهما البعض، سواء في لحظات التوتر أو محاولات التهدئة. وتعد هذه المحددات بمثابة الإطار المرجعي الذي حكم مسارات العلاقة، وقلّص من فرص بناء ثقة استراتيجية مستقرة بين الرياض وطهران.

أولا: مركزية الدولتين في النظام الإقليمي:

تُعد المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية القوتين الإقليميتين الأكثر تأثيرًا في النظام الإقليمي لمنطقة الخليج والشرق الأوسط عمومًا، وهو ما يجعل علاقاتهما متشابكة ومشحونة بصراعات الهيمنة والشرعية والتمدد. إذ تنبع مركزية السعودية من كونها مركزًا دينيًا وسياسيًا للعالم الإسلامي السني، وفاعلًا رئيسًا في منظمة أوبك والاقتصاد العالمي، إضافة إلى موقعها الجغرافي الذي يمنحها سيطرة على ممرات بحرية استراتيجية. بالمقابل، تستمد إيران مركزيتها من ثقلها السكاني، وقدراتها العسكرية، وشبكتها الواسعة من التحالفات مع فاعلين غير دولتيين في عدد من الساحات الإقليمية (لبنان، العراق، اليمن، سوريا).

هذه المركزية المتقابلة جعلت من الصعب فصل العلاقة بين البلدين عن التنافس على قيادة العالم الإسلامي، والتأثير في توازنات القوى الإقليمية، وصياغة معادلات النفوذ في مناطق الصراع. وقد عززت هذه الوضعية الثنائية – القائمة على الصدارة الإقليمية – من الطابع الصفري للتفاعل بين الطرفين في كثير من الملفات، مما أفرز حالة من “التوازن المتوتر” في المنطقة.

مركزية السعودية وإيران في الإقليم: جدلية القيادة والقطبية

أولا: موقع السعودية الجيو- استراتيجي.

إن السعودية تمثل مركز منطقة شبه الجزيرة العربية، إذ تتفوق السعودية على بقية أعضاء المجلس بعدد السكان، والمساحة وإجمالي الناتج المحلي اقتصادياً، وحجم احتياطها النفطي، وبالقوة العسكرية والمكانة الدينية، بل وبموقعها الاستراتيجي من خلال جوارها الحدودي البري مع سبع دول هي العراق، والأردن، والكويت، والإمارات العربية، وسلطنة عُمان، وقطر، واليمن، ومشاركتها حدوداً بحرية مع خمس دول هي مصر، والسودان، وإريتريا في البحر الأحمر، وإيران والبحرين في الخليج العربي.

فيما يلي جدول يوضح الدول التي لها حدود برية مع المملكة العربية السعودية، مع طول الحدود البرية التقريبي (بالكيلومتر)، والجهة التي تقع فيها كل دولة نسبةً إلى السعودية:

طول الحدود مع السعودية (كم)الجهة بالنسبة للسعوديةالدولة
731 شمال غربالأردن
811 شمالالعراق
221 شمال شرقالكويت
87 شرققطر
457  شرقالإمارات
658  جنوب شرقسلطنة عمان
1,307  جنوباليمن
650شرقاالساحل البحري
1,760غرباالساحل البحري

تمتد المملكة العربية السعودية على مساحة جغرافية واسعة تحدّها سبع دول برًا، بالإضافة إلى سواحل طويلة من الشرق على الخليج العربي ومن الغرب على البحر الأحمر، ما يمنحها موقعًا جيوسياسيًا فريدًا في قلب العالمين العربي والإسلامي. من الشمال ترتبط المملكة بحدود مباشرة مع العراق والأردن، مما يربطها ببلاد الشام والمشرق العربي، وتزداد أهمية هذه الحدود في ظل التوترات الأمنية المتكررة في العراق. ومن الشمال الشرقي، ترتبط بالكويت، ثم تمتد حدودها الشرقية مع قطر والإمارات وسلطنة عمان، وهي دول مجلس التعاون الخليجي، بما يعكس وحدة جغرافية وسياسية نسبية رغم التباينات المرحلية. أما في الجنوب، فتتشارك أطول حدودها البرية مع اليمن، وهي منطقة ذات حساسية أمنية بسبب الصراع المستمر في اليمن منذ 2015. وتمتد حدودها البحرية شرقيًا على الخليج العربي (650 كم)، ما يتيح لها منفذًا حيويًا لتصدير النفط ويضعها بالقرب من إيران. وفي الجهة الغربية، تمتلك ساحلًا طويلًا على البحر الأحمر (1,760 كم)، يشكل بوابة استراتيجية نحو قناة السويس وأفريقيا، كما يُعد ركيزة لمشاريع التنمية والتحول الاقتصادي في رؤية 2030. تعكس هذه الحدود تنوعًا في التهديدات والفرص، وتلزم المملكة بتوازن دقيق بين السياسات الأمنية والانفتاح الاقتصادي والدبلوماسي.

هذا التنوع في الحدود يعكس طبيعة الدور الإقليمي المتعدد للمملكة، ويفرض عليها إدارة معقدة لعلاقات الجوار، تجمع بين التحالفات والتوازنات الأمنية، والانخراط في تسويات إقليمية تهدف لحماية أمنها القومي ومصالحها الاستراتيجية.

وقد شكَّلت الثورة الإيرانية والظواهر الأخرى في سنة 1979 عامل توجس عميق في السياسة السعودية، لكن الهدف الاستراتيجي للمملكة السعودية كان بشكل محدد هو “محاصرة تداعيات الثورة الإيرانية”، فكان الدعم السخي للعراق خلال الحرب مع إيران، وتكريس الأدوات الإعلامية المقروءة والمسموعة والمرئية لثنائية التشيع والتسنن، بل وتوظيف “العروبة في مواجهة الفارسية”. ويبدو أن تنامي النزعة السياسية الدينية في المجتمع السعودي بشكل خاص والمجتمع العربي بشكل عام أثار الهواجس العميقة من احتمال تأثير ذلك على “مركزية العائلة الحاكمة” في السعودية بشكل خاص والخليج بشكل عام، خصوصاً بعد أن رحَّبت قوى إسلامية عربية، خصوصاً حركة الإخوان المسلمين، بالثورة الإيرانية خصوصاً في بداياتها،([6]) لا سيّما وأن لهذه الحركة جمهورها ونخبتها في المجتمع العربي والمتمثل في الاخوان المسلمين ، وهو ما أسس لوضع قاعدة التنافس بين إيران والسعودية، وأصبحت السعودية ترى في أي نشاط ديبلوماسي أو غيره من إيران هو محاولة لزعزعة استقرارها سواء من طرف إيران مباشرة أم من قوى متحالفة مع إيران في المنطقة.

ذلك يعني أن قاعدة التصادم بين إيران والسعودية من منظور سعودي تقوم على بُعدين هما: الاعتقاد السعودي بتهديد إيران لمركزية العائلة الحاكمة في السعودية، من خلال نشر النموذج الإيراني الثوري الذي يجسده نموذج “تصدير الثورة” في الذهن السعودي([7]) أما البُعد الثاني فهو التنافس على مركزية المكانة الإقليمية لكل منهما، وهو ما تمت الإشارة له بوضوح في خطة 2030 السعودية وخطة 2025 الإيرانية كما سنوضح لاحقاً، لأن من يفوز بهذه المكانة سيكون هو الأقدر على تكييف سياسات القوى الإقليمية لصالحه من ناحية، والقدرة على تحويل مكانته إلى عنصر جذب لتكييف سياسات القوى القطبية الدولية لصالحه بفعل مركزيته الإقليمية.

تقوم السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية على مبادئ وثوابت ومعطيات جغرافية، تاريخية، دينية، اقتصادية، أمنية، سياسية، وضمن أطر رئيسة؛ أهمها: حُسن الجوار، وعدم التدخُّل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وتعزيز العلاقات مع دول الخليج والجزيرة العربية، ودعم العلاقات مع الدول العربية والإسلامية بما يخدم المصالح المشتركة لهذه الدول ويُدافع عن قضاياها، وانتهاج سياسة عدم الانحياز، وإقامة علاقات تعاون مع الدول الصديقة، وتأدية دور فاعل في إطار المنظمات الإقليمية والدولية؛ وتنشط هذه السياسة من خلال عدد من الدوائر الخليجية، العربية، الإسلامية([8])، والدولية.

موقع ايران الجيو-استراتيجي

من يتأمل في موقع إيران الجغرافي ودور الجوار الذي يحيط بها، سيدرك بسهولة الأهمية الاستراتيجية لهذا الموقع. تمتد مساحة إيران على 1,648,000 كم²، مما يجعلها واحدة من أكبر الدول في الشرق الأوسط وآسيا. هذه المساحة الواسعة تمنح إيران عدة فرص استراتيجية، سواء من حيث الموارد الطبيعية أو موقعها الجغرافي، الذي يجعلها لاعبًا رئيسيًا في التفاعلات الإقليمية والدولية.

إيران تحتل موقعًا متفردًا بين آسيا الوسطى والشرق الأوسط، ويحدها العديد من الدول القوية والمؤثرة، مما يعزز من دورها في السياسة الإقليمية والعالمية. إذ تحدها من الغرب تركيا والعراق، ومن الشمال أذربيجان وأرمينيا، ومن الشمال الشرقي تركمانستان، ومن الشرق أفغانستان وباكستان، كما تمتلك ساحلًا طويلًا على الخليج العربي وبحر قزوين من الجنوب والشمال، مما يمنحها أهمية خاصة في التجارة الدولية.

لكن في الوقت نفسه، يشكل هذا الموقع الجغرافي تحديًا كبيرًا، حيث تحيط بها دول تتفاوت في القوى العسكرية والاقتصادية، وتتمتع بعض هذه الدول بعلاقات تحالفات استراتيجية مع قوى كبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين. إضافة إلى ذلك، فإن حدودها البحرية في الخليج العربي ومضيق هرمز تُعد من أهم الممرات المائية العالمية، وهو ما يجعل إيران في مواجهة مستمرة مع القوى الغربية، خاصة في ظل التوترات الإقليمية، مثل ملفها النووي، والنزاعات في اليمن وسوريا.

إيران، رغم ما تتمتع به من إمكانيات اقتصادية وعسكرية كبيرة، إلا أن موقعها الجغرافي يعرضها للكثير من التهديدات الخارجية، سواء من جيرانها أو من القوى العالمية.[9]

قائمة بالدول التي تحد إيران جغرافيًا، مع مساحة كل دولة تقريبية بالكيلومتر المربع

المساحة (كم²)جهة الحدود مع إيرانالدولة
1,599غربالعراق
534شمال غربتركيا
689شمال غربأذربيجان
44شمال غربأرمينيا
1,148شمال شرقتركمانستان
 921الشرقأفغانستان
 959 جنوب شرقباكستان
2,440الجنوبمنطقة الخليج العربي

تشكل الحدود الجغرافية لإيران مع الدول المجاورة عنصرًا حاسمًا في فهم موقعها الجيوسياسي وتعقيداته، إذ تمتد حدودها البرية مع سبع دول هي العراق، تركيا، أذربيجان، أرمينيا، تركمانستان، أفغانستان، وباكستان، وتتنوع هذه الحدود بين مناطق صراعات نشطة، كمثل حدودها مع العراق وأفغانستان، ومناطق ذات حساسية قومية مثل الحدود مع أذربيجان وتركيا، وأخرى مستقرة نسبيًا كحدودها مع تركمانستان. أما على الساحل الجنوبي، فتطل إيران على الخليج العربي وخليج عمان بحدود بحرية تمتد لأكثر من 2400 كم، ما يمنحها نفوذًا استراتيجيًا في أحد أهم الممرات البحرية العالمية، مضيق هرمز. تعكس هذه الحدود مزيجًا من الفرص والتحديات لإيران، فهي من جهة تمكّنها من لعب أدوار إقليمية مؤثرة، ومن جهة أخرى تجعلها في تماس دائم مع أزمات أمنية وطائفية وقومية.

وتشير الوثائق الإيرانية الرسمية والدراسات العلمية الأكاديمية الإيرانية إلى نزعة واضحة لإيران لأن تكون “القطب الإقليمي” في الشرق الأوسط، وهي توظف كل إمكاناتها وتبني استراتيجياتها محلياً وإقليمياً ودولياً لتحقيق هذا الهدف، بكل ما يترتب عليه من نتائج طويلة وعميقة الأثر. ولعل الوثيقة المستقبلية التي وضعها مجلس تشخيص مصلحة النظام الإيراني تحت اسم “رؤية 2025” تعزز هذا النزوع، إذ تشير الوثيقة إلى أن إيران تطمح لأن تكون القائد للمنطقة في سنة 2025. ويجد هذا النزوع الايراني، المتكئ على حسّ تاريخي بحضارة فارسية، وبخصوصية إسلامية قوامها التشيع الثوري، تعبيراته في كتابات النخبة الفكرية الإيرانية المساندة في اتجاهاتها العامة للثورة الإيرانية المعاصرة.([10]).

وتشعر إيران أن القوى الغربية خصوصاً منذ إجهاض حركة مصدق تعمل على خيارين هما: إما أن تكون إيران مرتبطة وبشكل وثيق باستراتيجيات الدول الغربية، وبالتالي تعمل هذه الدول على تكريس مركزية إيران في المنطقة وخصوصاً في الخليج لصالحها، أو إجهاض أي سعي إيراني لاحتلال موقع القطب الإقليمي، طالما أن هذا السعي ينطوي على تناقض مع المصالح الغربية.

من جانب آخر، فإن الوعي السياسي الإيراني من ناحية، والعقل الباطن السياسي الإيراني من ناحية ثانية، ينطويان على شكوك عميقة في مدى قدرة الإدارة السعودية على التحلل من التأثير الأمريكي على القرار السعودي، خصوصاً في القضايا التي تمس المصالح الاستراتيجية العليا الأمريكية، ويتعزز هذا الجانب لدى الإيرانيين في عمق التغلغل الأمريكي في هياكل الدولة السعودية، ناهيك عن الوجود العسكري الأمريكي في السعودية وبقية دول الخليج. وتعمقت هذه الجوانب بعد تزايد التطبيع وفتح السفارات الإسرائيلية في دول الخليج، وفتح المجال الجوي لبعضها ومنها السعودية، لدخول الإسرائيليين وعبور الطيران المدني الإسرائيلي للأجواء السعودية، ناهيك عما يضخه الإعلام الغربي والإسرائيلي عن تنامي نزعة التقارب السعودي الإسرائيلي، وهو ما ترى فيه إيران تقويضاً مسبقاً لكل نزوع إيراني للوصول إلى مكانة القطب الإقليمي. 

ولعل الإشارة في تصريحات وزير الخارجية السعودي إلى أن العلاقة السعودية الإيرانية يجب أن تقوم على أساس “الاحترام المتبادل، وعدم تدخل البلدين في الشأن الداخلي لكل منهما، واحترام ميثاق الأمم المتحدة”، تنطوي على إشارة للهواجس الكامنة([11]).

شهدت العلاقات السعودية – الإيرانية منذ بداية العقد الثاني من الألفية الثالثة العديد من التغيرات والتقلبات، سواء على مستوى التوترات أو التحولات الإقليمية والدولية. إلا أن هناك عددًا من المحددات الثابتة التي ساهمت بشكل كبير في توجيه مسار العلاقة بين البلدين، وتفصيل هذه المحددات يمكن أن يوفر فهماً أفضل للعوامل التي تؤثر في هذه العلاقة.

ثانيا: المصالح الأمنية والجيوسياسية المشتركة

من أبرز الثوابت التي حكمت العلاقة بين السعودية وإيران خلال الفترة من 2015 إلى 2025 كانت المصالح الأمنية والجيوسياسية، حيث يشترك البلدان في الحفاظ على استقرار منطقة الخليج العربي من الأزمات المتفاقمة، ويواجهان تهديدات مشابهة من القوى الإرهابية مثل داعش والقاعدة.  ورغم التنافس الإقليمي بينهما، كان هناك اتفاق ضمني بين الرياض وطهران على أهمية التعاون في محاربة الإرهاب، خاصة في فترة تصاعد الهجمات الإرهابية في المنطقة.

على المستوى الجيوسياسي، كان كل من السعودية وإيران يتبعان سياسات تهدف إلى ضمان النفوذ في المنطقة العربية، لا سيما في العراق وسوريا ولبنان واليمن. هذا التنافس على النفوذ، على الرغم من أنه يسبب توترات، إلا أنه في ذات الوقت يشكل عاملاً ثابتًا في العلاقة، مما يجعل كل منهما يسعى لتحقيق أهدافه في المناطق الاستراتيجية. تمثل هذه الديناميكية تحديًا مستمرًا في العلاقات، لكنها في ذات الوقت تفرض ضرورة وجود قنوات دبلوماسية للأمن والتواصل، وهو ما تجلى في عدة محاولات لفتح حوار غير مباشر.

ثالثا: النفط والاقتصاد

لا يمكن أن تُفهم العلاقة بين السعودية وإيران في الفترة من 2015 إلى 2025 بمعزل عن العوامل الاقتصادية، حيث يعتبر النفط من أبرز المحددات الثابتة التي تؤثر في العلاقات بين البلدين. على الرغم من خلافات البلدين في العديد من المجالات السياسية والأيديولوجية، إلا أن كليهما يشكلان القوى الكبرى في مجال إنتاج النفط في العالم.

سوق النفط العالمية تعتبر مجالًا للتنافس والتعاون بين البلدين، حيث كان لكل منهما مصالح اقتصادية مرتبطة بالتقلبات في أسعار النفط والإنتاج داخل منظمة أوبك. كما أن السياسة النفطية لــ السعودية تحت قيادة الملك سلمان بن عبد العزيز وولي العهد محمد بن سلمان، تتطلب أحيانًا تغييرات تتعلق بإنتاج النفط أو زيادة الاستثمارات في قطاعات أخرى، مما يجعل العلاقة مع إيران حساسة في هذا الإطار. كان الاتفاق النووي الإيراني 2015 يمثل فرصة لإيران لتوسيع نطاق تصدير النفط، ما دفع المملكة إلى مواجهة هذا التحدي بنهج أكثر حذرًا، من خلال تعزيز التحالفات مع الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة ودول الخليج.

رابعا: التباين الأيديولوجي والعقائدي

يُشكل التباين الأيديولوجي بين النظامين السياسيين في السعودية وإيران أحد أعمق جذور الصراع الثابت بين البلدين. فالمملكة العربية السعودية تستند إلى مرجعية سنية–سلفية تقليدية تُعدّ نفسها حامية للإسلام السني ورائدة للعالم الإسلامي، في مقابل الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي تنطلق من أيديولوجيا ولاية الفقيه ذات الطابع الثوري الشيعي. وقد غذى هذا التباين العقائدي خطابًا تعبويًا متبادلًا، وعزز منسوب الريبة بين الطرفين، وجعل من الصعب بناء توافقات تتجاوز الحساسيات الطائفية.

هذا البُعد الأيديولوجي كان حاسمًا في تفسير مواقف البلدين من الحركات والتنظيمات الإسلامية في المنطقة، وكذلك من الانتفاضات الشعبية التي شهدها العالم العربي منذ 2011، حيث تبنت كل دولة رؤى مناقضة عززت من الاستقطاب الطائفي والاحتقان السياسي.

 على الرغم من وجود هذه الخلافات المذهبية، إلا أن كلاً من الرياض وطهران يعترفان بأهمية الهوية الإسلامية المشتركة، سواء عبر المقدسات الإسلامية في مكة المكرمة والمدينة المنورة، أو عبر الأنشطة الدينية في العراق ولبنان وسوريا.

في بعض الأحيان، كان الاختلاف المذهبي يشكل مصدرًا للتوترات، خصوصًا في اليمن حيث تدخل كل من السعودية وإيران في النزاع على أطراف متباينة. ولكن في الوقت ذاته، نجد أن هناك محاولات لتجاوز هذه التوترات الدينية، من خلال استخدام المجال الديني لتحقيق أهداف سياسية ومالية، مثل دور الشيعة في العراق ودعم المسلمين السنة في سوريا. هذا التفاعل بين البعد المذهبي والبعد السياسي كان عاملاً ثابتًا يعزز الصراع في بعض الأحيان ويخدم المصالح الاستراتيجية في أحيان أخرى.

التباين العقائدي داخل بنية الدولتين.

ثير تجربة رجبي وما كشفه تساؤلات حول طبيعة منظومة الحكم العقائدية في إيران اليوم، لاسيما فيما يتعلّق بدور المرشد الأعلى علي خامنئي ونفوذ نجله مجتبى خامنئي. فعلي خامنئي (المرشد منذ 1989) يمثل الجيل الثوري المؤسس – رغم أنه يفتقر لكاريزما الخميني وعلو مرتبته الدينية – لكنه امتلك شرعية المنصب وتمرس في موازنة التيارات داخل النظام طوال عقود. يُعرف عن خامنئي تشدده في الثوابت (كمعاداة أمريكا وإسرائيل وتصدير الثورة) مع براعة في المناورة السياسية للحفاظ على النظام؛ فهو من جهة يروّج أيديولوجية “المقاومة” ومن جهة أخرى يضبط إيقاع الانفتاح والانكفاء وفقًا لمصلحة بقاء النظام. أما نجله مجتبى خامنئي فقد برز كـظل المرشد وحارس بوابته، لكنه شخصية غامضة تفتقر لأي منصب رسمي علني. مع ذلك، نجح مجتبى عبر موقعه العائلي وهيمنته على مكتب المرشد في اكتساب نفوذ كبير داخل الحرس الثوري وأجهزة الأمن، حتى بات يُعدّ خليفة محتملاً لوالده .
 الاختلاف الجوهري بين نهج الأب والابن يعود إلى عامل الشرعية والمقاربات. فعلي خامنئي – رغم محدودية مؤهلاته الفقهية عند اختياره – استطاع مع الوقت الحصول على درجة مرجع تقليد وتعزيز مكانته الدينية نسبياً، ما أضفى على قيادته طابعًا مؤسساتيًا ضمن إطار ولاية الفقيه . في المقابل، يفتقر مجتبى (المولود 1969) إلى المكانة الدينية؛ فهو مجرد حجة إسلامية لم يبلغ مرتبة آية الله، ولم يُظهر للعلن أي إنتاج فقهي معروف. هذا يعني أن مصدر نفوذ مجتبى عملي-أمني أكثر منه ديني. بالفعل، يوصف بأنه مهندس الكثير من سياسات القمع في الداخل وترتيبات الدعم العسكري للحلفاء في الخارج، مستفيدًا من علاقاته بقيادات الحرس الثوري الذين يدينون له بالولاء. يشير مراقبون إلى أن مجتبى لعب دورًا في قمع انتفاضة 2009 الخضراء بالتنسيق مع الحرس، وعمل كحلقة وصل بين والده والجهاز الأمني لضمان استمرارية نهج التشدد. وبحسب رجبي وآخرين، فإن نهج مجتبى يميل إلى تشديد القبضة الحديدية داخليًا وتصعيد الخطاب الثوري خارجيًا لضمان استمرار إرث والده – مع فارق أنه أقل حذرًا تجاه المغامرات، إذ لا يحمل ثقل مسؤولية المنصب علنًا. على صعيد السياسة الخارجية، يتوقع خبراء أن مجتبى سيكون أكثر اندفاعًا وارتباطًا بالحرس الثوري في صنع القرار، نظرًا لارتكازه على دعمهم لتعويض نقص شرعيته الدينية.

 فخامنئي الأب عُرف أحيانًا بالتردد التكتيكي – مثل قبوله الاتفاق النووي المؤقت 2015 تحت ضغط العقوبات ثم التراجع عنه تدريجيًا – أما الابن فيُرجح أن يكون أقل مرونة وأشد تصلبًا في رفض أي تسويات يعتبرها تنازلًا عن المبادئ الثورية. كذلك يُلاحظ اختلاف في الرؤية العقائدية: خامنئي يؤكد باستمرار على مركزية ولاية الفقيه وقيادة المرجعية الشيعية، بينما مجتبى (الذي لم ينل تزكية مراجع النجف وقم الكبار) قد يضطر لتركيز خطابه على شرعية “الثورة” وقوة الحرس أكثر من المرجعية الدينية لسد الفجوة. وهذا قد يعني تصعيد النهج العسكري الأمني في السياسة الخارجية – كتوسيع دعم الميليشيات وتسريع البرامج الصاروخية والنووية – لتعزيز موقعه أمام الداخل والخارج. بطبيعة الحال، هذه الاختلافات تظل في إطار التكهنات، إذ إن مجتبى يعمل من خلف ستار ولم يُفصح علنًا عن توجهاته. لكن إشارات ظهرت مؤخرًا توحي بتباينات: منها ما نقله رجبي عن تفكير دوائر في الحرس الثوري بتغيير في هرم القيادة، وصل حد طرح اسم شخصية غير إيرانية (حسن نصر الله) لقيادة الثورة الإسلامية بشكل رمزي. 

ورغم أن هذا السيناريو لم يتحقق وربما ووجه برفض من مجتبى والحرس بسبب “عنصرية فارسية” ضد زعامة عربية، إلا أنه يكشف اختلافًا في التصورات: خامنئي ربما أبدى مرونة في توزيع الأدوار، بينما التيار المحسوب على مجتبى أصر على حصر الزعامة داخل الأسرة والمؤسسة الحاكمة الإيرانية. وفي المحصلة، فإن ثنائية خامنئي ومجتبى تعكس وجهي النظام: الأب كمرجع أعلى يزاوج بين الأيديولوجيا وبراغماتية البقاء، والابن كرجل الظل الذي قد يمثل استمرارية أكثر تشددًا وأقل اعتدادًا بالاعتبارات الدبلوماسية.

ومع تزايد الحديث عن خلافة المرشد وسط تقدم سن خامنئي (84 عامًا)، يترقب المراقبون كيف سيؤثر صعود مجتبى – إن حصل – على سياسة إيران الخارجية؛ فالكثيرون يرون في توليه دليل ضعف في هيكل الجمهورية الإسلامية كونه يفتقر لمكانة رجال الدين الكبار، مما قد يدفعه لتعويض ذلك عبر تبني سياسات خارجية أشد تطرفًا لإثبات زعامته[12].

خامسا: الدور الدولي: القوى الكبرى وتأثيراتها

الدور الدولي كان ولا يزال من العوامل الثابتة التي تؤثر في العلاقات بين السعودية وإيران. فقد شهدت الفترة المدروسة تغيرات هامة في السياسة الدولية، خاصة في ظل الاتفاق النووي الإيراني 2015. هذا الاتفاق مثل نقطة فاصلة في العلاقات بين الرياض وطهران، حيث دعمت المملكة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في معارضة الاتفاق، معتبرة أنه يفتح المجال لإيران لتعزيز نفوذها الإقليمي.

على الرغم من تباين مواقف السعودية وإيران في هذا الشأن، إلا أن الضغط الدولي على البلدين من أجل الحفاظ على الاستقرار في المنطقة كان يمثل عاملاً مشتركًا. خصوصًا مع التحولات في سياسة الولايات المتحدة الأمريكية تحت إدارة ترامب ثم إدارة بايدن، كان لكل من الرياض وطهران مواقف استراتيجية تتأثر بشكل كبير بمواقف القوى العالمية الكبرى.

سادسا: التحديات الداخلية وتأثيرها على السياسة الخارجية

لا يمكن إغفال التحديات الداخلية في كل من السعودية وإيران، والتي شكلت أحد المحددات الثابتة في العلاقات بين البلدين. في السعودية، كان التركيز على إصلاحات رؤية 2030 وتعزيز الاستقرار الداخلي والإصلاحات الاقتصادية تحت قيادة محمد بن سلمان، مما دفعها إلى أن تكون أكثر تركيزًا على قضايا الأمن الداخلي والتنافس الاقتصادي الإقليمي.

أما في إيران، فقد كانت العقوبات الدولية والمشاكل الاقتصادية من أبرز التحديات الداخلية التي أثرت في سياسة طهران الخارجية. كما أن النظام الإيراني كان دائمًا يسعى لتحقيق توازن داخلي بين التيارات السياسية المختلفة، مما جعله في بعض الأحيان يتخذ مواقف أكثر حذرًا تجاه السعودية في بعض القضايا الإقليمية.

الخلافات الداخلية في إيران: مواجهة مع سليماني ومحاولة اغتيال
كشف جابر رجبي أن خلافاته لم تقتصر على الجوانب الفكرية فحسب، بل أخذت طابع صراع داخلي محتدم على مستوى قيادات الحرس الثوري. فبحكم موقعه في فيلق القدس، احتكّ رجبي مباشرة بالجنرال قاسم سليماني (القائد السابق للفيلق) وقيادات أخرى، ويصف رجبي تلك الفترة بأنها كانت مواجهة خطرة خلف الكواليس. في إحدى المحطات، واجه رجبي سليماني بوقائع حول تهريب المخدرات واستغلال عوائدها لتمويل عمليات سرية، معتقدًا أنه يكاشفه، حفاظًا على مصلحة النظام.

لكن ردة فعل سليماني – حسب رواية رجبي – كانت غاضبة، إذ اعتبر إفشاء هذه الأسرار تجاوزًا للخطوط الحمراء. منذ تلك اللحظة، بات رجبي في مرمى استهداف جناح سليماني داخل الحرس. ورغم أن اغتيال سليماني نفسه في مطلع 2020 على يد الأمريكيين أخرج خصمه الأكبر من المعادلة، إلا أن ذلك لم يوقف محاولة إسكات رجبي. فالأسرار التي بحوزته كانت كفيلة بإدانة كثيرين، لذا جاءته رسائل تهديد مبطنة وصريحة بضرورة صمته. بلغ الترهيب ذروته عبر محاولة اغتياله بتسميمه بالزرنيخ عام 2022 – وهي طريقة اغتيال خفية تشير أصابع الاتهام فيها نحو أجهزة أمنية إيرانية، خاصة وأن رجبي ذكر أنه كان تحت مراقبة مكثفة قبيل الحادث. ويؤكد رجبي أن استهدافه جاء أيضًا بسبب حصوله على معلومات استخباراتية حساسة خلال عمله، بينها أدلة على اختراقات إسرائيلية داخل إيران. فبحسب ما أسرّ به لاحقًا، تمكن من توثيق صلات بين بعض عناصر الحرس الثوري وجهات استخباراتية معادية، وربما أبلغ بها جهات عليا. هذه التحركات جعلته في نظر المتشددين “خائنًا” أو مواليًا للعدو، ما عجّل بقرار التخلص منه. ولم يكن رجبي الضحية الوحيدة للصراعات الداخلية؛ فهو يكشف مثلًا عن صراع بين الحرس الثوري وأجهزة أمنية أخرى على تقاسم عائدات النفط والغاز التي ينهبها الحوثيون في البحر الأحمر لصالح طهران – وهو صراع أدى إلى إقصاء وتصفيات في صفوف كبار القادة . ويزعم أيضًا أن القائد الحالي لفيلق القدس إسماعيل قآني نفسه تعرّض للاعتقال والتحقيق ووُضع قيد الإقامة الجبرية لفترة وجيزة، بعد تسريب معلومات عن اختراق إسرائيلي أدت إلى اغتيال نائبه في لبنان . وفي سياق تلك الحادثة الخطيرة، يُقال إن غارة إسرائيلية استهدفت اجتماعًا في ضاحية بيروت الجنوبية قُتل فيها حسن نصر الله زعيم حزب الله إلى جانب مسؤولين إيرانيين  – رواية صادمة لو صحتّ، تفيد بأن الاختراق الأمني بلغ أعلى المستويات وأدى إلى تصفية أبرز حليف لإيران. هذه الواقعة دفعت المتشددين للتحقيق مع قآني واتهامه بالتقصير والتعاون (ربما غير العمد) مع الموساد . ورغم ندرة تأكيدات مستقلة لهكذا أحداث، فإن رجبي يؤكد وجود حرب خفية داخل أجنحة النظام، بين من يسمّيهم “الحرس القديم” المتمثل بخط خامنئي – سليماني، وبين تيار آخر داخل الحرس والأمن ربما أقل انضباطًا وأكثر استعدادًا للتسريب أو حتى التمرد من الداخل. ويستشهد بتنامي السخط بين أبناء الجيل الثاني والثالث من الحرس الثوري الذين لم يعودوا يثقون تمامًا بقيادتهم. حتى أن بعضهم – كما يقول – شاركوا في عمليات تخريب من الداخل طالت البرنامج النووي الإيراني، بدافع قناعة وطنية بضرورة كبح طموحات النظام الخطرة. هكذا رسم رجبي صورة لنظام يعتريه انقسام داخلي عميق وصراعات على النفوذ والثروة والولاءات، بلغ حد الاغتيالات والمحاولات الانقلابية الصامتة. إن مواجهة رجبي لسليماني ومن بعده لقادة آخرين، وما تعرض له من محاولة قتل، هي شواهد على أن الخلافات داخل إيران خرجت من نطاق الاختلاف الفكري إلى طور التصفيات الجسدية، مما ينذر باضطراب داخلي قد يضعف تماسك السياسات الإيرانية على المدى القريب.[13]

مما سبق تبين أن العلاقات السعودية-الإيرانية بين 2015 و2025 كانت محكومة بعدد من المحددات الثابتة التي شكلت الأساس الذي ارتكزت عليه التحولات والتطورات بين البلدين. تشمل هذه المحددات المصالح الأمنية والجيوسياسية، النفط والاقتصاد، الهوية الدينية، التنافس الإقليمي، الدور الدولي، والتحديات الداخلية. ورغم الخلافات المستمرة، فإن هذه العوامل الثابتة توضح أن العلاقة بين السعودية وإيران كانت دائمًا عبارة عن تفاعل معقد بين التنافس والتعاون في سعي كل طرف لتحقيق مصالحه الإستراتيجية.

يمكن القول إن العلاقات السعودية–الإيرانية خلال العقد 2015–2025 ظلت مرهونة بمحددات ثابتة ذات طابع بنيوي، أهمها: التنافس على مركزية النظام الإقليمي، التباين الأيديولوجي، التنافس على النفوذ في ساحات إقليمية، والرهانات المرتبطة بالنفط والاقتصاد، والمصالح الأمنية المتقاطعة. وقد جعلت هذه المحددات من العلاقة بين البلدين علاقة تنافسية مشوبة بالحذر، تخضع لحسابات إستراتيجية تتجاوز لحظات الانفراج أو التصعيد المؤقت.

المبحث الثاني:

التحولات نحو التصعيد في العلاقات السعودية – الإيرانية

منذ عام 2015 حتى 2022

شهدت العلاقات بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية منذ عام 2015 تحولات كبيرة على صُعد متعددة، بدءًا من التوترات الإقليمية وتصعيد النزاعات العسكرية، وصولًا إلى محاولات التقارب السياسي والدبلوماسي في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية. لنفصل تلك التحولات بشكل أكثر دقة:

  1. التصعيد في النزاع الإقليمي وتعدد الساحات

منذ عام 2015، تميزت العلاقات بين السعودية وإيران بوجود تصعيد إقليمي كان أحد أبرز العوامل التي أثرت على هذه العلاقات بشكل مباشر. هذا التصعيد شمل النزاعات في عدة دول، أهمها:

  • تغييرات تفصيلية في السياسة الخارجية السعودية

الملك سلمان بن عبد العزيز، الذي وصفه الملحق العسكري الفرنسي السابق في المملكة بـ “رجل سلام”[14] لكنه وصفا مغاير للواقع، فليس هناك من عاهل سعودي بدأ عهده بما بدأه الملك سلمان بن عبد العزيز؛ بهذا الكم الكبير من الأزمات المعقدة، والمتغيرات الخطيرة الإقليمية والدولية؛ لهذا يُدرك الملك سلمان أن المراوحة في المكان لبعض ملفات السياسة الخارجية يستدعي تدخُّله الشخصي، وعدم تركها للأجهزة البيروقراطية.

من المعلوم أن الملك الجديد وبحكم آليات اتخاذ القرار في بيت الحكم السعودي هو جزء من صناعة القرار منذ زمن؛ وذلك بحكم مرافقته اللصيقة للملوك السابقين؛ “ليس بصفته الوظيفية كأمير سابق لمنطقة الرياض لمدة تزيد عن الأربعين عامًا فحسب؛ ولكن لكونه ركنًا من أركان الحكم والاستشارة منذ ستينات القرن الماضي؛ وعليه كان له مقعد دائم في اللجان العليا التي تُعِدُّ القرارات.

 فمنذ تعيين محمد بن سلمان ولياً لولاية العهد في السعودية سنة 2015، ثم ولياً للعهد سنة 2017، عمل على تحييد الشخصيات المنافسة والقوية في العائلة، وقام بتحجيم نفوذ الحركة الدينية ودورها من وهابية أو إخوان مسلمين.

وعمل أيضا على “توازن هرم السلطة”، فقد ركز على قمة هرم السلطة مثل القوى الأمنية، ووزارات الداخلية والدفاع والحرس الوطني (التي تمتلك القوة الصلبة، متمثِّلة في القوة العسكرية والموارد المالية الضخمة)، ثم يأتي في وسط الهرم هيئة البيعة؛ التي تمتلك حقَّ انتخاب الملك وولي عهده، ثم تأتي بعد ذلك عملية انتقال الحكم، وتشكِّل القوى الأمنية البيئة الحاضنة لهيئة البيعة؛ مما يُعطيها نفوذًا بارزًا على عملية انتقال الحكم، كل هذا يمثل تغيُّرًا في بنية السلطة [15].

وهي الولايات المتحدة بعدد من الممارسات السياسية، ناهيك عن توسيع دائرة الحرب مع اليمن، ثم التهديد بنقل العنف إلى قلب العاصمة الإيرانية، إلى جانب توتر علاقات بلاده في فترة مع تركيا وقطر وحركة الإخوان المسلمين، خصوصاً مع حركة المقاومة الإسلامية في فلسطين.

لكن حصاد كل هذه السياسات لم يكن ذا جدوى واضحة بل كان أقرب للفشل الواضح، وهو ما يتضح من بقاء السعودية في مؤشر الاستقرار السياسي ضمن دائرة عدم الاستقرار وتتراوح بين سالب 0.63 سنة 2015، وسالب 0.58 سنة 2021،[16]

تُعتبر التغيرات في الموقف السعودي تجاه إيران أحد أبرز التحولات في السياسة الخارجية للمملكة خلال السنوات الأخيرة، ويعكس هذا التغيير العديد من العوامل الإقليمية والدولية التي دفعت السعودية إلى تعديل نهجها تجاه طهران. لنستعرض هذه التحولات والتفسيرات التي يمكن أن تفسرها:

التوترات الأولى: (2015-2016)

  1. المليشيات الحوثية

منذ بدء العمليات العسكرية في اليمن عام 2015: استهدفت جماعة الحوثي المناطق المدنية في السعودية بأكثر من 225 صاروخًا باليستيًا، بالإضافة إلى استخدام أكثر من 155 طائرة مسيّرة مفخخة. هذه الهجمات أسفرت عن مقتل وإصابة أكثر من 1,071 مدنيًا في مختلف مناطق المملكة[17]. في نفس السياق أفاد تقرير، صدر خلال ديسمبر/كانون أول الماضي عن مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (مقره واشنطن)، أن السعودية تعرضت لأكثر من (4100 )هجوم حوثي بين عامي 2016 و2021. وذكر أن الهجمات الحوثية ضد السعودية تضاعفت، في العام 2021 مقارنة بالعام السابق عليه، مشيرا أن متوسط الهجمات بلغ 78 هجوما شهريا العام الماضي، فيما بلغ المتوسط الشهري للهجمات 38 هجوماً في عام 2020.[18]

وفقًا للإحصائيات التي قام بها الباحث خلال فترة الدراسة، تبيّن أن المملكة العربية السعودية كانت الهدف الرئيسي للهجمات الصاروخية التي أطلقتها جماعة الحوثي. وقد احتلت المرتبة الأولى من حيث عدد الهجمات مقارنة بالدول الأخرى المتأثرة، كما هو موضح في الجدول التالي:

جدول رقم (4)

يوضح الهجمات الحوثية على المنشآت المدنية من خلال النسب والأعداد (2014-2024)

مالعمليات الصاروخية والطيران المسير المنفذةعدد العملياتالنسبة
4المنشئات المدنية السعودية148177.89%
5المنشئات المدنية الإماراتية502.62%
6المنشئات المدنية في الجنوب28114.77%
7المنشئات المدنية في مناطق اليمنية (مارب+تعز)271.42%
8 المنشئات المدنية الإسرائيلية653.42%
المجموع 1904100%
  1. العمليات ضد المنشآت المدنية السعودية (1481 عملية – 77.89%) وهي نسبة مرتفعة وتشكل تلك العمليات ضد المنشآت المدنية السعودية 77.89% من إجمالي الهجمات الحوثية، مما يشير إلى أن المملكة العربية السعودية كانت الهدف الرئيسي للهجمات الحوثية خلال هذه الفترة. بلغ عدد العمليات 1481 عملية، وهي تعد أكبر عدد من الهجمات ضد أي دولة. وهذا الرقم يعكس أهمية المملكة العربية السعودية في الصراع القائم مع الحوثيين.
    1.  العمليات ضد المنشآت المدنية الإماراتية (50 عملية – 2.62%) وهي نسبة منخفضة على الرغم من أن الإمارات كانت أحد الأعضاء الرئيسيين في التحالف العربي، إلا أن العمليات ضد المنشآت المدنية الإماراتية كانت محدودة للغاية، حيث بلغ عدد العمليات 50 عملية فقط، أي ما يعادل 2.62% من إجمالي الهجمات.
    1. العمليات ضد المنشآت المدنية في الجنوب اليمني (281 عملية – 14.77%) وهي نسبة مرتفعة أيضا إذ بلغت تلك العمليات ضد المنشآت المدنية في المناطق الجنوبية 281 عملية، أي ما يعادل 14.77% من إجمالي الهجمات.
    1. العمليات ضد المنشآت المدنية في مناطق الشرعية (27 عملية – 1.42%) وهي نسبة منخفضة جدا إذ نفذت حوالي 27 عملية ضد المنشآت المدنية في مناطق الشرعية، وهي تمثل 1.42% من إجمالي العمليات
    1. العمليات ضد المنشآت المدنية الإسرائيلية (65 عملية – 3.42%) وهي نسبة  متوسطة إذ نفذت حوالي 65 عملية ضد المنشآت المدنية الإسرائيلية، مما يشكل 3.42% من إجمالي العمليات. هذه الهجمات تشير إلى محاولات الحوثيين لتوسيع نطاق الحرب خارج حدود اليمن والدول المجاورة.  

الاستنتاجات الرئيسية:

  • التركيز على السعودية: الهجمات الحوثية كانت بشكل رئيسي موجهة ضد المملكة العربية السعودية، وهو ما يعكس الأهمية الاستراتيجية لهذا البلد بالنسبة للحوثيين في سياق الحرب اليمنية. الهجمات المكثفة على السعودية قد تكون جزءًا من استراتيجية طويلة الأمد لزعزعة استقرار المملكة.
  • المناطق الأقل تأثراً: الإمارات وإسرائيل ومناطق الشرعية كانت الهدف الأقل تضررًا، مما يشير إلى أن الحوثيين يوجهون طاقاتهم العسكرية بشكل رئيسي ضد المملكة بينما تكون الهجمات على باقي المناطق بمثابة رسائل سياسية أو عمليات ذات أبعاد استراتيجية.
  • استهداف الجنوب اليمني: الهجمات على الجنوب تشير إلى استراتيجيات تهدف إلى إضعاف الحكومة الشرعية في المناطق الجنوبية وتأكيد النفوذ الحوثي على الأراضي اليمنية.

زيارة الأمير محمد بن سلمان إلى روسيا (2015): في عام 2015، قام الأمير محمد بن سلمان، ولي ولي العهد آنذاك، بزيارة روسيا، حيث أبدى قلقه من ازدياد النفوذ الإيراني في سوريا. كان هذا التصريح يعكس توجس المملكة من السياسة الإيرانية في المنطقة، وخاصة دعم طهران للنظام السوري في مواجهته للمعارضة السورية. المملكة كانت ترى في هذا النفوذ الإيراني تهديدًا لأمنها القومي، وتحديدًا في اليمن وسوريا، حيث كانت إيران تدعم جماعات حزب الله في لبنان، الميليشيات الشيعية في العراق، والحوثيين في اليمن.

إعدام نمر النمر (2016): إعدام رجل الدين الشيعي نمر النمر في يناير 2016 شكّل نقطة تحول كبرى في العلاقات السعودية الإيرانية. حيث أدت هذه الخطوة إلى تصعيد حاد في العلاقة بين البلدين، وزيادة التوترات الطائفية في المنطقة. إيران شنت حملة انتقادات حادة ضد السعودية، واعتبرت الإعدام خطوة استفزازية وغير شرعية، ما أدى إلى قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين. هذا الحدث، إلى جانب القلق من النفوذ الإيراني المتزايد، دفع السعودية إلى تعزيز سياستها الإقليمية.

التصلب السعودي (2017):

في عام 2017، بعد أن أصبح الأمير محمد بن سلمان وليًا للعهد، تعزز التشدد السعودي تجاه إيران. كان هذا التحول واضحًا في التصريحات التي أدلى بها الأمير محمد بن سلمان، حيث أشار إلى أن المملكة لن تنتظر أن تكون المعركة في أراضيها، بل ستنقلها إلى داخل إيران، في إشارة إلى تعزيز دور المملكة في التصدي للنشاط الإيراني في المنطقة.

  1. التصعيد الإيراني في المنطقة العربية

بالفعل، تظهر السياسة الإيرانية في عدة سياقات إقليمية وعالمية براغماتية واضحة، وهو ما يتناقض في بعض الأحيان مع التصورات السائدة التي تركز على الاختلافات الطائفية بين إيران والدول السنية في المنطقة. على الرغم من أن إيران تعد دولة شيعية، فإنها قامت بتوسيع نطاق تحالفاتها السياسية لتشمل حركات سنية ودولًا ذات غالبية سنية في سياق تأمين مصالحها الاستراتيجية وتعزيز دورها الإقليمي.

دعم حركات المقاومة السنية:

  1. حركة حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين: على الرغم من الاختلافات المذهبية بين إيران وحركة حماس التي تمثل التيار السني، فقد دَعمت إيران حركة حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين على خلفية مواقفها المتشددة تجاه الاحتلال الإسرائيلي، وذلك ضمن الاعتبارات السياسية المرتبطة بمكافحة النفوذ الغربي والإسرائيلي في المنطقة. دعم إيران لحماس لم يكن بالضرورة مرتبطًا بمذهبية الحركة أو إيران، بل كان استراتيجية لتقوية جبهة المقاومة في فلسطين ودعم قوى تهدف إلى مقاومة الاحتلال الإسرائيلي.
  2. الإخوان المسلمون في مصر: إيران دعمت أيضًا الإخوان المسلمين في مصر، رغم أنها كانت تواجه تحديات كبيرة من الحركات السنية الأكثر تقليدية في المنطقة. دعم إيران للإخوان جاء ضمن رؤية استراتيجية أوسع لتعزيز التيار الإسلامي السياسي في مواجهة النفوذ الغربي والأنظمة العربية التي كانت تعتبرها إيران خصمًا لها. هذا الدعم جاء في مرحلة ما بعد الربيع العربي، حين كانت إيران تسعى لإعادة تشكيل المنطقة وفقًا لموازين القوى الجديدة.
  3. نظام الرئيس السوداني السابق عمر البشير: كان عمر البشير من بين الزعماء العرب الذين احتفظوا بعلاقات ودية مع إيران، وقد دعمت طهران نظامه سياسيًا واقتصاديًا في سياق سعيها لتعزيز نفوذها في إفريقيا وفي السودان بشكل خاص. هنا كان الدعم الإيراني غير مرتبط بمسألة المذهب بقدر ما كان يتعلق بتحقيق النفوذ الإقليمي وضمان بقاء الحكومة السودانية في مواجهة الضغوط الغربية.
  4. رئيس الوزراء اللبناني الأسبق عمر كرامي: خلال فترة رئاسة كرامي في لبنان، كان الدعم الإيراني له يأتي في سياق الحفاظ على الاستقرار السياسي في لبنان ومحاربة النفوذ الأمريكي والغربي في المنطقة. كان ذلك جزءًا من الاستراتيجية الإيرانية لتعزيز دورها في لبنان من خلال دعم الحكومة اللبنانية ضد الضغوط الخارجية.
  5. عمران خان في باكستان: دعم إيران لرئيس الوزراء الباكستاني عمران خان يعكس البراغماتية الإيرانية في سياستها تجاه دول ذات غالبية سنية، حيث استغلت إيران الفرص السياسية لتعزيز العلاقات الثنائية في مجالات متعددة مثل الاقتصاد والأمن، بما في ذلك مكافحة التطرف والإرهاب، مما يشير إلى سعي إيران لتوسيع نفوذها في جنوب آسيا، وهو ما يصب في صالحها على المستوى الاستراتيجي.

إيران على الرغم من تحالفاتها مع الدول الشيعية والحركات الشيعية في المنطقة، إلا أنها أظهرت نوعًا من البراغماتية السياسية من خلال تحالفاتها مع الحركات السنية، مما يعكس قدرتها على التعامل مع الديناميكية الإقليمية بشكل مرن. هذا التوجه كان يهدف بشكل أساسي إلى تحقيق أهداف سياسية تتعلق بتعزيز نفوذها الإقليمي ومواجهة التحالفات الغربية، بالإضافة إلى الحفاظ على الاستقرار في المنطقة التي تسودها التحديات الأمنية والسياسية.

جدول رقم (1) يوضح

الصراع والتهدئة بين السعودية الإيرانية منذ سنة 1980 – 2025م

العلاقات الإيرانية السعودية خلال الفترة 2015- 2023 السنةالعلاقات الإيرانية السعودية خلال الفترة 2015- 2023السنة
التدخل السعودي في اليمن، في مقابل الدعم الإيراني للحوثيين.2015تأييد ضمني للعراق تطور فيما بعد إلى شبه علني،.1980
قطع العلاقات الديبلوماسية مرة أخرى.2016اتهامات إيرانية للسعودية بإغراق الأسواق النفطية.1985
إجراء محادثات سرية بين البلدين في العراق، ومشاركة2021 مواجهات بين الأمن السعودي والحُجَّاج الإيرانيين1987
إجراء محادثات سرية بين البلدين في الصين ومشاركة2022قطع العلاقات الديبلوماسية مع طهران (مشكلة الحُجَّاج).1988
 عقد الاتفاقية الايرانية السعودية الصينية المشتركة2023إجراء محادثات سرية بين البلدين في سويسرا1989
إعادة العلاقات الديبلوماسية، والتعهد بتفعيل الاتفاقيات الأمنية والاقتصادية بين البلدين.2023أعيدت العلاقات الديبلوماسية بعد 4 أعوام تقريباً.1991
عقد اجتماع في الدوحة بين الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان ووزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان2024وفد تجاري إيراني يزور السعودية.1992
زارة الطاقة السعودية و وزارة النفط الإيرانية في مناقشات لتعاون اقتصادي في مجال الطاقة.2024إعادة تشغيل خط الطيران المباشر بين البلدين،1997
أبدت السعودية رغبتها في إجراء مناورات بحرية مشتركة مع إيران في البحر الأحمر. 2024  زيارة وزراء الدفاع والخارجية والداخلية السعوديين لإيران.1997
 وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان بزيارة إلى الرياض، حيث التقى بنظيره السعودي فيصل بن فرحان.2025زيارة الرئيس هاشمي رفسنجاني للسعودية1998
 الإعلان عن إطلاق مشاريع مشتركة بين القطاعين العام والخاص في السعودية وإيران.2025زيارة خاتمي للسعودية.1999
 عقدت السعودية وإيران اجتماعًا مشتركًا في طهران لمناقشة سبل تعزيز التعاون الأمني.2025توقيع اتفاقيات أمنية بين البلدين.2001
وزير الدفاع السعودي، الأمير خالد بن سلمان، بزيارة رسمية إلى طهران في 17 أبريل 2025.2025زيارة ثانية لخاتمي للسعودية.2002
2025زيارة الرئيس نجاد للسعودية.2007

من خلال الجدول أعلاه، يتبين ما يلي:

  • أنه منذ عام 1980، كانت العلاقة بين السعودية وإيران تتسم بالتوتر، حيث بدأت مع دعم السعودية للعراق في الحرب الإيرانية العراقية، في مقابل دعم إيران للحوثيين. ومن ثم توالت الأحداث التي ساهمت في تعميق هذا التوتر، مثل مقتل الحجاج الإيرانيين في 1987، حيث أضافت هذه الحادثة عاملًا إضافيًا في التوتر الدبلوماسي بين البلدين.
  • شهدت العلاقات بين السعودية وإيران فترات متقطعة من القطيعة والعودة، حيث انقطعت العلاقات بشكل نهائي في عام 2016 بعد حادثة إعدام الشيخ نمر النمر في السعودية. هذه القطيعة أظهرت بشكل واضح أن التوترات بين البلدين لم تكن فقط تتعلق بالقضايا الإقليمية، بل تأثرت كذلك بالملفات الداخلية في كل من السعودية وإيران.
  • على الرغم من التوترات والقطيعة، كانت هناك محاولات حوار في أوقات متفرقة. فعلى سبيل المثال، شهد عام 2021 إجراء محادثات سرية بين البلدين في العراق، ثم في 2022 في الصين، مما يعكس رغبة كلا الطرفين في التقارب وإيجاد حلول للقضايا الخلافية. هذا يدل على أن العلاقات بين البلدين بدأت تتحول من التصعيد إلى البحث عن حلول دبلوماسية
  • في الأعوام الأخيرة (2023-2025)، بدأ التعاون بين السعودية وإيران في مجالات متنوعة، مثل الطاقة والأمن. ففي عام 2023 تم توقيع اتفاقية مشتركة بين البلدين في الصين، وفي 2024 تم الاتفاق على إجراء محادثات مشتركة في مجال مكافحة الإرهاب والتطرف، بالإضافة إلى إعادة تشغيل خطوط الطيران المباشر بين البلدين. هذه التحولات تشير إلى بداية مرحلة جديدة من التعاون، بعيدًا عن سياسة المواجهة.
  • أن هناك زيارات متبادلة بين كبار المسؤولين في البلدين في السنوات الأخيرة، مثل زيارة وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان إلى الرياض في 2025. هذه الزيارات تعكس تحسّن العلاقات على المستوى الرسمي وتُعزز من التعاون المشترك في مجالات عدة.
  • تُعد هذه الزيارة الثانية من نوعها منذ الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، بعد زيارة الأمير سلطان بن عبد العزيز في عام 1999
  • زار ثلاثة رؤساء إيرانيون؛ هاشمي رفسنجاني، ومحمد خاتمي، وأحمدي نجاد، السعودية، بينما لم يقم أي ملك سعودي بزيارة طهران، أي أن مبادرات التواصل تأتي من الجهات العليا في النظام السياسي الإيراني، وثمة “وعد” بزيارة الملك سلمان لطهران بعد الاتفاق الذي رعته الصين بين الدولتين.

جدول تطور العلاقات الثنائية بين السعودية وإيران (1990-2025):

السنةالحدث الرئيسيمستوى العلاقاتتأثير الاتفاقات/الأحداث
1990بداية فترة التوتر بعد حرب الخليجسيءالتوترات في العلاقات السياسية
2001أحداث 11 سبتمبر وتغير المواقفمتوسطظهور تحولات في السياسة الإقليمية
2015التدخلات في اليمن (حرب اليمن)سيءتصاعد التوترات الأمنية
2021محادثات في العراق بشأن المصالح المشتركةجيدتراجع التوترات في مجالات معينة
2024توقيع الاتفاق السعودي الإيرانيجيد جداًتحسين العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية

علاقات السعودية وإيران شهدت تقلبات كبيرة من التوتر بعد حرب الخليج في 1990، إلى التحولات السياسية عقب أحداث 11 سبتمبر في 2001. في 2015، تصاعدت التوترات بسبب التدخلات العسكرية في اليمن، ثم بدأت محادثات تخفيف التوتر في العراق في 2021. في 2024، تم توقيع اتفاق تاريخي بين البلدين، مما أسهم في تحسين العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية، رغم التحديات المستمرة.

المبحث الثالث:

التحولات في العلاقة السعودية الإيرانية: من التصعيد إلى الدبلوماسية”

بدأت العلاقات بين البلدين تشهد تحولًا تدريجيًا في السنوات الأخيرة. هذا التحول لم يكن مفاجئًا، بل جاء نتيجة لعدة عوامل داخلية وخارجية، منها الضغوط الاقتصادية، التحديات الإقليمية، والتغيرات في السياسة الأمريكية. كما أن هناك مجموعة من الأزمات الإقليمية التي فرضت على المملكة العربية السعودية التفكير في أساليب دبلوماسية جديدة لمعالجة التوترات مع جارتها الشرقية.

في هذا السياق، أصبح من الواضح أن التحولات في السياسة السعودية تجاه إيران لم تكن مجرد رد فعل على الأزمات والمستجدات الإقليمية، بل كانت استراتيجية تضمن مصالح المملكة على المدى البعيد. المملكة بدأت تدرك أن التصعيد العسكري لا يمثل الحل الأمثل، وأن التفاوض مع إيران، بالرغم من كل التحديات، قد يكون هو الخيار الأنسب لضمان الاستقرار الإقليمي وحماية المصالح الوطنية.

التحولات السعودية الإيرانية لم تكن مجرد تحول سياسي فحسب، بل كانت أيضًا انعكاسًا لتحولات اقتصادية واجتماعية في المملكة. إذ كانت المملكة في حاجة ماسة لإعادة هيكلة أولوياتها الداخلية والخارجية بما يتماشى مع احتياجاتها الأمنية والاقتصادية.

البعدأهم ما استنتجته الدراسات
الثابتالنزاع المذهبي – التنافس الإقليمي – غياب الثقة – مركزية الملفات الساخنة (اليمن/لبنان)
المتحولتغيرات القيادة السياسية – تأثير العقوبات – تدخل أطراف دولية جديدة (مثل الصين) – مرونة نسبية في السياسات الخارجية
الوساطةالصين في 2023 كفاعل بديل للولايات المتحدة – دور العراق كوسيط مؤقت 2021–2022
الملفات الحاسمةاليمن: صراع وجودي للرياض – سوريا: دعم إيران

أولا: التحولات الإقليمية ودور الصين في إعادة تشكيل التوازن السعودي–الإيراني:

شهدت المنطقة العربية خلال العقدين الأخيرين تحولات جيوسياسية متسارعة أعادت رسم خارطة التوازنات الإقليمية، لا سيما في منطقة الخليج العربي التي تُعد من أكثر الساحات حيويةً في الصراع بين القوتين الإقليميتين: المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية. وقد تداخلت في هذا الصراع أبعاد طائفية وسياسية واقتصادية وأمنية، تجلّت آثاره في عدد من الأزمات الممتدة في اليمن وسوريا ولبنان والعراق. وفي خضم هذه الأزمات، لم تكن العلاقات بين الرياض وطهران ثابتة، بل تأرجحت بين القطيعة والانفراج، متأثرةً بالعوامل الإقليمية والدولية، وبسعي كل طرف لتعظيم نفوذه ضمن بيئة استراتيجية مضطربة.

في هذا السياق، برزت قوى دولية صاعدة، وعلى رأسها الصين، تسعى إلى إعادة موضعة نفوذها في المنطقة من خلال أدوات ناعمة ومبادرات اقتصادية كبرى، أبرزها مبادرة الحزام والطريق، التي تهدف إلى تأمين ممرات بحرية وبرية للطاقة والتجارة بين الشرق والغرب. وقد أوجد هذا التوجه نوعًا من إعادة ترتيب المصالح والتحالفات، في ظل تراجع تدريجي للحضور الأمريكي، وظهور فراغ نسبي تسعى قوى مثل الصين والهند لملئه كلٌ بطريقته. وبالتوازي، طرحت الهند مشروع “الممر الاقتصادي الهندي–الشرق الأوسط–أوروبا” عام 2023 بدعم أمريكي وإسرائيلي، في محاولة لموازنة النفوذ الصيني المتنامي، وإيجاد شراكة استراتيجية جديدة تربط آسيا بأوروبا عبر قلب المنطقة العربية.

من منظور نظري، تقدم نظرية الأمن الإقليمي إطارًا ملائمًا لتحليل كيفية تفاعل السعودية وإيران ضمن نظام إقليمي مترابط؛ إذ تؤثر أزمات اليمن وسوريا ولبنان والعراق في أنماط العلاقات بين الطرفين، من حيث التصعيد أو التهدئة. وتساعد هذه الرؤية على تمييز الثوابت البنيوية في العلاقة عن المتغيرات الظرفية، بما في ذلك تأثير التحولات في السياسات الخارجية للقوى الكبرى، وعلى رأسها الصين، التي لعبت دورًا محورياً في إعادة بناء الجسور بين الرياض وطهران من خلال رعايتها للاتفاق المعلن في مارس 2023.

تنبع البراغماتية الصينية في هذا السياق من توجه سياسي طويل الأمد يعكسه شعار التيار الإصلاحي في بكين: “ليس المهم لون القط، بل أن يصطاد الفئران”، في إشارة إلى تغليب المصالح الاقتصادية والاستراتيجية على التزمت الأيديولوجي. وقد سعت الصين، من خلال هذا المنظور، إلى تحويل العلاقات السعودية–الإيرانية من معادلة صفرية إلى معادلة غير صفرية، تقوم على توسيع المساحات المشتركة دون إنكار التناقضات الجوهرية، كما يظهر في استمرار علاقاتها التجارية مع الولايات المتحدة رغم التوترات السياسية.

تحتل كل من السعودية وإيران موقعًا استراتيجيًا في مشروع الحزام والطريق، خاصة في مساره البحري. وتعكس الأرقام التجارية هذا الواقع؛ إذ بلغ حجم التجارة بين الصين والسعودية في عام 2022 نحو 106 مليارات دولار، بزيادة نحو 30% عن عام 2021، وهو ما يعادل ضعف حجم التبادل التجاري مع الولايات المتحدة في الفترة نفسها. كما تستورد الصين ما يقرب من ربع حاجتها النفطية من السعودية وإيران مجتمعتين، بنسبة 19% من السعودية و6% من إيران، ما يجعل الاستقرار في العلاقة بين البلدين مصلحة صينية مباشرة، تُعززها اتفاقيات كبرى، منها الاتفاق الصيني–الإيراني للاستثمار المشترك بقيمة 400 مليار دولار على مدى 25 عامًا.

لكن التباين بين الرياض وطهران في الموقف من “إسرائيل” يشكل عامل تمايز مهم في العلاقة مع الصين. فبينما ترى السعودية في توسيع العلاقة مع “إسرائيل” فرصة لتعزيز دورها الإقليمي في ظل تراجع الدعم الأمريكي، فإن إيران تنظر إلى أي انفتاح صيني–إسرائيلي كتهديد مباشر لطموحاتها ومواقفها العقائدية المناهضة لـ”الاحتلال”. وتبدو المسافة السياسية بين السعودية والصين أقصر بكثير من تلك التي تفصل إيران عن بكين في هذا الملف، ما ينعكس على أولويات كل طرف في شراكته الاستراتيجية مع الصين.

إعلان السعودية والهند في سبتمبر 2023 عن مشروع “الممر الاقتصادي” مثل نقطة تحول جديدة في التنافس الجيو-اقتصادي في المنطقة. هذا المشروع، الذي يربط الهند بأوروبا عبر السعودية، الإمارات، الأردن، و”إسرائيل”، يأتي كخيار استراتيجي مدعوم من الغرب لمواجهة مبادرة الحزام والطريق. وقد قوبل المشروع بترحيب واسع من الولايات المتحدة و”إسرائيل”، نظراً لتأثيره المتوقع على شبكات التجارة والبنية التحتية الإقليمية، بما فيها الموانئ والسكك الحديدية وكابلات البيانات والطاقة، إلى جانب ما يُتوقع أن يحدثه من تقليص في زمن النقل البحري مقارنة بقناة السويس، وهو ما أثار قلقًا مصريًا مشروعًا.

لا تنظر إيران إلى هذا المشروع بارتياح، خصوصًا في ظل معرفتها بالتوترات التاريخية بين الصين والهند، والتي شملت نزاعات حدودية دموية في أعوام 1962، 1967، 1978، 2018، و2020. كما أن باكستان، الحليف الوثيق لكل من الصين والسعودية، ستكون لاعبًا حاسمًا في هذا التنافس، بحكم موقعها الجغرافي وعمق علاقاتها الإقليمية، ما يفتح المشهد على احتمالات جيوسياسية متعددة، ستؤثر حتمًا على مستقبل التوازنات بين السعودية وإيران في ظل التنافس المتصاعد بين المشاريع الاقتصادية الكبرى في المنطقة.

ثانيا: “التحول الاستراتيجي السعودي بعد 2021:

شهدت السياسة السعودية بعد عام 2021 تحوّلاً استراتيجياً واضحاً في مقاربتها للعلاقات الإقليمية، وبالأخص في تعاملها مع إيران. فقد تراجعت المملكة عن خطاب المواجهة والتصعيد العسكري، وبدأت تنتهج سياسة أكثر براغماتية قائمة على التهدئة والدبلوماسية، انطلاقاً من إدراك متنامٍ بأن تحقيق الأمن والاستقرار الإقليمي بات شرطاً ضرورياً لإنجاح التحولات الاقتصادية الكبرى التي تتبناها المملكة، وعلى رأسها رؤية 2030. ولم يكن هذا التحول منفصلاً عن مراجعة شاملة للسياسة الخارجية السعودية منذ عام 2015، بما فيها إعادة تقييم العلاقة مع تركيا وقطر وسوريا، والانفتاح التدريجي على فصائل من المقاومة الفلسطينية، وتخفيف التوتر مع الولايات المتحدة، والانخراط في تفاهمات نفطية مع روسيا عبر “أوبك+”، وكذلك تعميق الشراكة مع الصين، التي لعبت دوراً محورياً في رعاية التقارب السعودي–الإيراني.

جاء هذا التبدل في إطار أوسع من السعي السعودي لتأمين البيئة الداخلية والمحيطة بالمملكة، خاصة في ظل استهداف منشآت حيوية سعودية خلال حرب اليمن، ما أبرز هشاشة البنية الأمنية التقليدية المعتمدة على التحالفات الغربية، ودفع الرياض إلى تنويع شراكاتها الاستراتيجية والتفاوض المباشر مع الأطراف الإقليمية الفاعلة، بما فيها طهران وصنعاء. كما أن مشاريع عملاقة مثل “نيوم”، الواقعة شمال غربي المملكة، أصبحت معرضة لأي تصعيد عسكري، وهو ما جعل الأمن الإقليمي شرطاً وجودياً لنجاح النموذج التنموي الجديد الذي يتبناه ولي العهد محمد بن سلمان، والذي لم يعد ممكناً عزله عن التطورات الجيوسياسية المحيطة.

هذا التحول السعودي تزامن مع تراجع نسبي في الحضور الأمريكي التقليدي في الشرق الأوسط، نتيجة انشغال واشنطن بملفات دولية أكثر إلحاحاً، كالحرب في أوكرانيا، والتنافس المتصاعد مع الصين، والملف النووي الكوري الشمالي، ما خلق فراغاً نسبياً أتاح للسعودية توسيع هامش قرارها المستقل، والتحرك بحرية أكبر نحو خيارات أكثر توازناً. وفي ظل هذه المستجدات، اتجهت المملكة إلى تبريد جبهات التوتر مع إيران، وفتح قنوات تنسيق دبلوماسي وأمني معها، بالتوازي مع خطوات تطبيعية هادئة تجاه “إسرائيل”، ما يعكس محاولة لخلق توازن دقيق بين المصالح المتقاطعة إقليمياً ودولياً.

وفي ضوء هذه التبدلات، اتسمت السياسة السعودية بقدر من الليونة تجاه ملفات شديدة الحساسية، كالتقارب مع النظام السوري رغم العزلة الدولية التي واجهها سابقاً، أو إطلاق سراح معتقلين محسوبين على حركات مقاومة إسلامية، في خطوة قد تهدف إلى تحييد بعض الأطراف التي يمكن أن تعرقل مسار التطبيع السعودي–الإسرائيلي. كما تسعى السعودية، من خلال هذا التوجه، إلى إضعاف الخطاب المعارض لها في محور المقاومة، أو على الأقل تقليل حدة الانتقادات الموجهة إليها، عبر إبراز نفسها بوصفها شريكاً تفاوضياً لا عدواً مباشراً.

دوافع التغيير في الموقف السعودي (2021-2023):

تشير هذه النقاط إلى مجموعة من العوامل الاستراتيجية التي دفعت المملكة العربية السعودية إلى إعادة تقييم سياستها تجاه إيران وبدء التفكير بشكل مختلف في كيفية التعامل مع النفوذ الإيراني في المنطقة، خاصة بعد عام 2021.

 ويمكن تلخيص الأسباب التي ساهمت في تغيير الموقف السعودي في النقاط التالية:

  1. في ظل إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، كان هناك تغير في الموقف الأمريكي تجاه المملكة. ففي حملته الانتخابية، كان بايدن قد أشار إلى ضرورة محاسبة المملكة على انتهاكات حقوق الإنسان، وعلى رأسها مقتل الصحفي جمال خاشقجي. هذا الموقف الأمريكي زاد من العزلة السياسية للمملكة، ودفعها إلى إعادة التفكير في سياستها الإقليمية، بما في ذلك علاقاتها مع إيران. كما كانت الضغوط الأمريكية على السعودية بسبب الملف اليمني والتهديدات الإيرانية في الخليج العربي تلعب دورًا في دفع المملكة نحو إعادة التفكير في سياستها تجاه طهران.
  2. كان للانخفاض الكبير في أسعار النفط في عام 2020 نتيجة لتداعيات جائحة كورونا تأثير كبير على الاقتصاد السعودي. كان من الضروري أن تعيد المملكة ترتيب أولوياتها الاستراتيجية، بما في ذلك تعزيز استقرار أسواق الطاقة، وبالتالي كان من المفيد لها أن تبحث عن تسوية للملف النووي الإيراني والحد من التهديدات الإيرانية في المنطقة. هذا التحول ساعد في خلق مناخ من التهدئة الدبلوماسية مع طهران.
  3. كان النمو المتسارع للنفوذ الإيراني في العديد من البلدان في المنطقة – مثل العراق وسوريا ولبنان واليمن – بمثابة تهديد استراتيجي للمملكة. فإيران لم تقتصر على توسيع دائرة نفوذها السياسية والعسكرية، بل أيضاً دعمها المستمر للميليشيات والأنشطة المزعزعة للاستقرار في هذه البلدان كان يمثل تحديًا مباشرًا للنفوذ السعودي في المنطقة. ومن ثم، أصبح من الضروري أن تجد المملكة طريقًا للحوار مع طهران لتخفيف من حدة التوترات والنزاعات.
  4. غياب الثقة تجاه سياسة الولايات المتحدة، لا سيما في عهد الرئيس باراك أوباما الديمقراطي، حيث عقدت واشنطن مفاوضات مع طهران حول برنامجها النووي بدون التنسيق الكافي مع الرياض، مما جعل المملكة تشعر بأنها مستبعدة من اتخاذ قرارات هامة تخص أمن المنطقة. التوقيع على الاتفاق النووي مع إيران، الذي لم تكن المملكة طرفًا فيه، جعلها تدرك أن الاعتماد على القوة الأمريكية في مواجهة طهران ليس خيارًا مضمونًا أو دائمًا.
  5. بعد سلسلة من الأزمات الإقليمية، من الصراع في اليمن إلى الوضع في سوريا ولبنان، بدأت المملكة ترى أن التصعيد العسكري مع إيران قد لا يكون الحل المثالي لحل النزاعات العالقة في المنطقة. وبدلاً من ذلك، بدأ يتضح أن الحوار والدبلوماسية هما السبيل الوحيد لإيجاد تسويات مستدامة. من هنا نشأت القناعة السعودية بأن إقصاء إيران عن أي ترتيبات أمنية في المنطقة ليس واقعيًا أو مفيدًا.
  6. الحرب في اليمن كانت إحدى أكبر الأزمات التي فرضت تحديات على المملكة. الدور الإيراني في دعم الحوثيين أضاف تعقيدات كبيرة للوضع. لذا، بدأت السعودية تدرك أنه لا بد من التوصل إلى تسوية مع إيران لإنهاء هذه الحرب، وهو ما يتطلب التعاون الدبلوماسي مع طهران. مع الطفرة النفطية التي تحققت بعد ارتفاع أسعار النفط نتيجة لتداعيات الحرب الأوكرانية، أصبح الاستقرار في المنطقة أكثر أهمية لتحقيق مصالح السعودية الاقتصادية، وجعل السعودية أكثر انفتاحًا على الحوار مع إيران.
  7. الهجوم على منشآت السعودية باستخدام طائرات مسيرة تبنته جماعة الحوثي المدعومة من إيران، كان بمثابة إنذار استراتيجي للسعودية. هذا الهجوم ألحق أضرارًا كبيرة بمنشآت النفط السعودية وأدى إلى خفض إنتاج النفط بشكل كبير، ما أثر في اقتصاد المملكة. وعلى الرغم من أن السعودية كانت تتوقع دعمًا من الولايات المتحدة في هذا الهجوم، لم يكن هناك رد قوي من واشنطن على إيران، مما جعل المملكة تشعر بحالة من الانكشاف الاستراتيجي. هذا الهجوم عزز الحاجة لدى السعودية لإعادة ترتيب حساباتها الاستراتيجية تجاه إيران، مما جعلها تفكر في طرق أكثر عقلانية وبراغماتية للتعامل معها.
  8. في عام 2021، بدأ الموقف السعودي يتغير بشكل جذري. المملكة بدأت ترى أن انهيار النظام في إيران قد يؤدي إلى عدم الاستقرار في المنطقة، ما قد يؤثر بشكل مباشر على أمنها. بالإضافة إلى ذلك، التشابه الديني بين البلدين (كلاهما دول دينية)، جعل السعودية تدرك أن أي تغيرات كبيرة في إيران قد تؤثر على الوضع الداخلي في المملكة. إذا ما حدث شيء يؤدي إلى سقوط النظام الإيراني، فقد تكون له تداعيات خطيرة على الاستقرار في السعودية، التي تتسم بنظام ديني مشابه في بعض جوانبه.

ثانيا: موقف إيران من التحول السعودي بعد 2021:

فيما يتعلق بالموقف الإيراني من التحول الاستراتيجي السعودي، فقد بدا واضحًا أن طهران كانت تراقب عن كثب الخطوات السعودية نحو التهدئة والدبلوماسية بعد 2021. ورغم أنها لم تُبدِ رد فعل قاسيًا تجاه هذه التحولات، إلا أن إيران كانت حريصة على الحفاظ على موقعها الاستراتيجي في المنطقة وعدم التفريط في مصالحها. فقد اعتبرت طهران أن أي تقارب سعودي مع القوى الإقليمية مثل تركيا وقطر وسوريا، وكذلك التقارب مع الصين وروسيا، قد يشكل تحديًا لمصالحها طويلة الأمد في الشرق الأوسط. وفي ذات الوقت، أدركت إيران أن السعودية تتجه نحو تبني سياسة جديدة تهدف إلى تقليل التوترات الإقليمية، وهو ما قد يعزز فرص استقرار المنطقة ويخفف من العبء الأمني الذي تواجهه الدولتين بسبب التنافس المستمر في مناطق مثل اليمن. ورغم ذلك، حافظت إيران على موقفها الثابت فيما يتعلق بسيادتها الإقليمية، وأكدت في العديد من المرات أنها لن تتنازل عن مواقفها السياسية والأيديولوجية، خصوصًا فيما يتعلق بالصراع مع “إسرائيل” والدعم المستمر للمقاومة الفلسطينية.

دوافع إيران في التقارب مع السعودية:

تتعدد دوافع إيران في التقارب مع السعودية، ويُعد الحصار الاقتصادي الأمريكي والأوروبي أحد العوامل الرئيسية التي دفعت طهران إلى إعادة النظر في سياساتها الإقليمية. فقد أثرت العقوبات المشددة، التي فُرضت منذ عام 2018، بشكل كبير على الاقتصاد الإيراني، مما أدى إلى تراجع حجم التجارة بين إيران والصين بشكل ملحوظ مقارنة بالفترات السابقة. هذا التراجع الاقتصادي جعل إيران تدرك ضرورة تحسين علاقاتها الإقليمية، بما في ذلك مع السعودية، لتخفيف الضغوط الاقتصادية وتحقيق بعض المكاسب الاستراتيجية. إضافة إلى ذلك، تواجه إيران تحديات أمنية واقتصادية تهدد استقرارها الداخلي، ما جعلها تسعى إلى تهدئة التوترات مع السعودية لضمان استقرار المنطقة بشكل عام. في ظل التحولات الاستراتيجية التي شهدتها السعودية بعد 2021، التي باتت تميل نحو الانفتاح والدبلوماسية، أصبحت إيران أكثر استعدادًا لإعادة تقييم علاقاتها مع الرياض لتخفيف المخاطر الأمنية وتعزيز المصالح المشتركة في مواجهة التحديات الإقليمية والدولية [19] إيران، في ظل التحديات الداخلية والإقليمية المتزايدة، تجد نفسها أمام ضغوط هائلة قد تدفعها إلى إعادة تقييم استراتيجياتها في المنطقة. التوترات الداخلية، مثل النزعات الانفصالية في بعض المناطق الإيرانية والاختلافات بين أجنحة الحكم، تساهم في إضعاف استقرارها السياسي. بالإضافة إلى ذلك، تستمر الضغوط الناجمة عن الوجود العسكري الأمريكي في العديد من دول الخليج والعراق، مما يفاقم من حالة التوتر الأمني في المنطقة. كما أن السياسات الإسرائيلية، بما في ذلك تطبيع العلاقات مع دول خليجية وتوطيد علاقاتها مع أذربيجان، تضع إيران في موقف دفاعي. هذا كله يحدث في سياق تراجع استقرار إيران، الذي يظهر بوضوح من خلال انخفاض معدل الاستقرار السياسي في البلاد، مما يعزز من دوافعها نحو التقارب مع السعودية كخطوة استراتيجية تهدف إلى تخفيف هذه الضغوط وتحقيق الاستقرار الداخلي.

هذه الضغوط المتزايدة على إيران، والتي تظهر بوضوح من خلال انخفاض معدل الاستقرار السياسي في البلاد من -0.93 سنة 2015 إلى -1.62 سنة 2021، تسهم بشكل مباشر في دفع إيران نحو إعادة تقييم سياساتها الإقليمية، بما في ذلك اتخاذ خطوات للتقارب مع السعودية من أجل ضمان استقرارها الداخلي والتخفيف من الأزمات المتفاقمة.[20]

إن هذه الضغوط على إيران والسعودية، سواء كانت داخلية أو إقليمية أو دولية، تفسر بشكل واضح السعي المشترك بين الطرفين نحو تخفيف هذه الأعباء. فقد أصبح من الواضح أن التحديات التي تواجهها كل من الرياض وطهران تتطلب منهما التكيف مع البيئة الدولية والإقليمية المتغيرة، وهو ما يفسر لجوء الدولتين إلى “التكيف الإذعاني”، وهو مفهوم أشار إليه عالم السياسة الأمريكي جيمس روزينيو في نظرية أنماط التكيف السياسي. وفقًا لهذا المفهوم، فإن “التكيف الإذعاني” يعني استعداد الدولة لتعديل سلوكها الخارجي وهياكلها الداخلية استجابة للضغوط الناشئة عن البيئة الدولية، وخاصة من قبل الدول الكبرى، بشرط ألا يتسبب هذا التعديل في المساس بالهياكل الأساسية للدولة أو آليات اتخاذ القرار فيها. وبالتالي، يعد التفاهم السعودي-الإيراني تحت هذا السياق خطوة استراتيجية تهدف إلى التكيف مع الضغوط، مع الحفاظ على الهوية والسيادة الوطنية لكلا البلدين.”.[21]

الفصل الرابع:

مؤشرات نجاح الاتفاق السعودي الإيراني بعد عامين من التوقيع

المبحث الأول:

مؤشرات التقدم الدبلوماسي والتقارب الحذر[22]

إن عودة العلاقات السعودية-الإيرانية، عبر اتفاق بكين في 10 مارس 2023م، مثَّلت اختبارًا مُهمًّا لتحديد فاعلية الاتفاق، وتأثيره في علاقات الجانبين والمشهد الإقليمي، إذ تُشير مجريات العلاقات إلى أنَّ الاتفاق، وعلى الرغم من تعارُض المصالح، يحقِّق نتائج مهمَّة على الأرض لكلا الطرفين.

فالعلاقة بين الرياض وطهران لم تكن يومًا علاقة طبيعية، بل ظلت محكومة بتركيبة من التنافس المذهبي، والصراع الجيوسياسي، واختلاف الرؤية تجاه النظامين الإقليمي والدولي. وعلى الرغم من التقدم البروتوكولي واللقاءات الثنائية والتصريحات الإيجابية، فإن القضايا العالقة – من الملف اليمني إلى النفوذ في العراق وسوريا، ومن التسلح إلى أمن الطاقة والملاحة – لا تزال تمثل ملفات شائكة قابلة للانفجار في أي لحظة.

وهُنا نطرح بعض التساؤلات حول مدى تأثير الاتفاق في العلاقات السعودية-الإيرانية خلال عامين من توقيع الاتفاق؟ وما التحدِّيات التي تواجهها العلاقات؟ وكيف نتمكَّن من قراءة تداعيات ذلك وتأثيراته في الحال والمستقبل؟

من هنا، يسعى هذه المبحث إلى تقييم العلاقة السعودية–الإيرانية بعد عامين على إعادة العلاقات، من خلال رصد أبرز الاختبارات التي واجهت الطرفين، وأدوات التفاعل المستخدمة، وتحليل ما إذا كانت العلاقة تسير نحو “تسوية شاملة” أو أنها دخلت مجرد مرحلة “إدارة مؤقتة للصراع”.

وانطلاقًا من بنود البيان الثلاثي المشترك بين السعودية وإيران والصين، وبالاعتبار الفترة القصيرة من عُمر الاتفاق، والإرث التاريخي الذي حكم مسار الدولتين، فإنَّ أهمَّ الإنجازات والإخفاقات، التي اعترت مسار علاقتهما بعد عام مصالحة، يمكن إيجازها في أنَّ الاتفاق عكَسَ نجاحًا للسعودية بتحييد إيران وميليشياتها عن استهداف أراضي المملكة، ومن ناحية إيران، خفَّف الاتفاق الضغوط على الحكومة، بإنهاء عُزلتها الإقليمية وسط ضغْط دولي؛ بسبب العقوبات وحرب أوكرانيا وصورة النظام دوليًا.

  1. 10 مارس 2023 – إعلان الاتفاق السعودي الإيراني لاستئناف العلاقات بوساطة صينية.
  2. 8 أبريل 2023 – أول زيارة رسمية لوفد سعودي إلى طهران لمناقشة آليات إعادة فتح السفارة والقنصلية.
  3. 16 أبريل 2023 – إيران تعلن أن رئيسها تلقى دعوة لزيارة السعودية، وبدوره وجه دعوة للعاهل السعودي لزيارة طهران.
  4. 10 مايو 2023 – الموعد المقرر لإعادة فتح السفارات، لكنه تأخر.
  5. 6 يونيو 2023 – إيران تعيد فتح سفارتها في الرياض وتعين علي رضا عنايتي سفيرًا.
  6. 17 يونيو 2023 – زيارة وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان إلى طهران، الأولى منذ أكثر من عقد.
  7. 17 أغسطس 2023 – زيارة وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان إلى السعودية، التقى ولي العهد ونظيره السعودي، وحضرها السفير الإيراني الجديد.
  8.  6 سبتمبر 2023 – السفير الإيراني علي رضا عنايتي يقدم أوراق اعتماده رسميًا في الرياض.
  9. 10 سبتمبر 2023 – السفير السعودي عبد الله العنزي يقدم أوراق اعتماده في طهران.
  10. 11 نوفمبر 2023 – لقاء بين ولي العهد السعودي محمد بن سلمان والرئيس الإيراني الراحل إبراهيم رئيسي على هامش القمة الإسلامية في الرياض.
  11. 17  يوليو 2024 – اتصال هاتفي من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بالرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشيكان بعد فوزه بالانتخابات.
  12.  9 أكتوبر 2024 – استقبال ولي العهد السعودي لوزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي في الرياض.
  13.  10 نوفمبر 2024 – زيارة رئيس هيئة الأركان السعودي فياض الرويلي إلى طهران لبحث التعاون الدفاعي.
  14. نوفمبر 2024 – اتصال هاتفي من الرئيس الإيراني بزشيكان بالأمير محمد بن سلمان لبحث العلاقات الثنائية.
  15. فبراير 2025 – مشاركة وزير الاقتصاد الإيراني في مؤتمر للاقتصادات الناشئة في السعودية وإجراء محادثات اقتصادية.
  16. 14 أبريل 2025 – اتصال هاتفي بين وزيري خارجية البلدين حول الأوضاع الإقليمية.
  17. تزامنًا مع زيارة وزير الدفاع السعودي لطهران – زيارة مساعد الشؤون القنصلية الإيراني إلى الرياض للتشاور حول قضايا ثنائية.

مؤشرات نجاح بند الاتفاق “عدم التدخل في الشؤون الداخلية” 

أن المؤشر الأكثر دلالة على طبيعة مستقبل العلاقة الإيرانية السعودية هو مدى تراخي كلّ من الطرفين عن مساندته لحلفائه الإقليميين (أي أن تتخلى إيران عن حلفاءها في المنطقة، وأن تتخلى السعودية عن قوى المعارضة العربية لطهران وحلفائها في المنطقة)، وهو أمر تشير له معطيات الواقع والتطورات حتى هذه اللحظة.

المؤشرات التي يمكن تحليلها:

  • تأثير الاتفاق على الأمن في سوريا والعراق.
  • تأثير الاتفاق على النزاعات الإقليمية (مثل اليمن).
  • تأثير الاتفاق على التعاون الاقتصادي بين هذه الدول والسعودية وإيران.
الدولةالتأثير على الأمنالتأثير على الاقتصادالتعاون العسكريالتعاون التجاري
العراقإيجابيمعتدلمعتدلمرتفع
سورياإيجابيمعتدلضعيفمعتدل
لبنانمحدودمحدودمرتفعمحدود
اليمنضعيفمتراجعضعيفمعتدل

في الفترة الممتدة من مارس 2023 إلى مارس 2025، واجهت إيران تحديات متزايدة في الحفاظ على شبكة تحالفاتها التقليدية في المنطقة، نتيجة تصاعد التحولات الجيوسياسية، وضغوط داخلية وخارجية، وتحركات سعودية وخليجية نشطة أعادت ترتيب موازين النفوذ. وفيما يلي عرضٌ تحليلي لأبرز التحولات التي طالت حلفاء إيران خلال هذه الفترة:

  1.  سوريا: نهاية الهيمنة الأحادية

رغم استمرار الدعم الإيراني للنظام السوري، فإن تطبيع العلاقات بين دمشق والعواصم الخليجية أعاد ترتيب أولويات النفوذ في سوريا. اتجهت الحكومة السورية نحو إعادة الانفتاح العربي، وبرزت السعودية كشريك اقتصادي وسياسي فاعل في جهود إعادة الإعمار، وهو ما همّش تدريجيًا الدور الإيراني غير المرحب به شعبيًا. كما شهدت العلاقات السورية – الإيرانية توترًا غير معلن على خلفية تردد دمشق في الانخراط بأي مواجهة مباشرة ضد إسرائيل من الأراضي السورية، ما كشف حدود التنسيق العسكري والسياسي بين الطرفين.

  •  لبنان وحزب الله: تفكك حلقة السيطرة

تلقى حزب الله ضربات أمنية قاتلة عبر اغتيال قيادات بارزة على يد إسرائيل، كما شهد شعبيته تآكلًا داخليًا بفعل الأزمات الاقتصادية والسياسية المتلاحقة في لبنان، واتهامه بالهيمنة على القرار الوطني. وتزامن ذلك مع تحركات سعودية داعمة لتيارات لبنانية تطالب بتحييد لبنان عن المحاور، والسير نحو سياسة استقلالية تُضعف سطوة إيران. أصبح لبنان ميدانًا لتنافس استثماري وسياسي، لم تعد فيه إيران الطرف الأكثر تأثيرًا.

  •  حماس: من الحليف إلى المراجعة السياسية

رغم أن إيران قدمت دعمًا لحماس خلال الحرب الأخيرة، فإن واقع الصراع كشف حدود هذا الدعم. لم تُنفذ طهران أي تحرك عسكري مباشر لنصرة غزة، ما خلق خيبة أمل داخل بعض أوساط المقاومة. برزت مراجعات داخل حماس لعلاقتها مع طهران، لا سيما بعد تحرك السعودية ومصر لاستعادة زمام المبادرة في ملف القضية الفلسطينية. بذلك، فقدت إيران ورقة حماس كمصدر فاعل في خطاب “الممانعة”، وتحولت إلى داعم محدود التأثير.

  •  العراق: تحجيم الدور الإيراني عبر الدولة

بدأت حكومة محمد شياع السوداني إعادة التوازن في علاقات العراق الخارجية، مع تعزيز العلاقات مع الدول العربية. وتمت محاصرة نفوذ بعض الميليشيات التابعة لإيران داخل العراق، بعد ضغوط شعبية ودولية لفرض هيبة الدولة. كما اتضح خلال المواجهات مع القوات الأمريكية أن القرار العراقي بات أكثر استقلالية، وأقل تبعية لطهران، مع صعود تأثير النجف الديني كمرجعية شيعية عربية مقابل قُم.

  • صعود نجم الحوثي

رغم تقارب الرياض وطهران في العديد من القضايا الإقليمية، لا تزال جماعة الحوثي – الحليف الرئيس لإيران في اليمن – تمارس ضغوطًا عسكرية عبر البحر الأحمر، وتشن أحيانًا هجمات على العمق السعودي بطريقة غير مباشرة. هذه الهجمات تمثل تحديًا كبيرًا للرياض، وتضع إيران أمام اختبار حقيقي حول قدرتها على التأثير الفعلي في حلفائها، خاصة في ظل التباين الذي قد يظهر بين القيادة الإيرانية وسلوك الحوثيين في بعض الأحيان.

في هذا السياق، تجد السعودية نفسها أمام امتحان “الصبر الاستراتيجي”، حيث تتحمل الضغوط العسكرية المستمرة من الحوثيين، وفي الوقت ذاته تسعى إلى إيقاف الهجمات من خلال تعزيز التعاون الإقليمي والدولي، ومن خلال تطوير آليات دبلوماسية قد تساهم في التهدئة. في إطار هذه التحديات، تحول السعودية من دور الطرف المشارك في الحرب إلى دور الوسيط، إذ تعمل على قيادة عملية التسوية وإحلال الهدنة بين الأطراف المتحاربة في اليمن.

في الوقت ذاته، تجد الرياض نفسها أمام ضغوط كبيرة داخليًا ودوليًا، خاصة من الولايات المتحدة الأمريكية، التي انتقدت الحرب في اليمن وأدانت تصاعد العنف، مشيرة إلى ضرورة إيجاد حل سياسي. وفي ظل هذه الضغوط، قد يكون هناك تحول في سياسة السعودية نحو التهدئة، لكن هذا يأتي على حساب الإنجازات العسكرية والسياسية التي حققتها السعودية في الجنوب اليمني. إذ تجد المملكة نفسها مجبرة على التراجع عن بعض المكاسب العسكرية التي حققتها في المنطقة في سبيل إحلال التسوية.

من جهة أخرى، السعودية تواجه أيضًا تحديًا إضافيًا يتمثل في عدم المشاركة في “حلف الازدهار” الذي يهدف إلى حماية البحر الأحمر. هذا التحالف، الذي تقوده إسرائيل وبعض الدول الغربية، يعزز التواجد العسكري في المنطقة ويهدف إلى تحجيم النفوذ الإيراني في البحر الأحمر. لكن رفض السعودية الانضمام إلى هذا الحلف يعكس موقفها الرافض لبعض السياسات الإقليمية التي قد تزيد من تعقيد العلاقات مع إيران وتحد من فرص التعاون في المستقبل.

***

مما سبق تبين أن العلاقات السعودية–الإيرانية في العامين الماضيين كانت ساحة اختبار حقيقية للطرفين. ففي حين كانت طهران تراهن على مشروع “الهلال الشيعي”، فإنها اليوم تُجبر على تعديل مقاربتها نحو المزيد من البراغماتية، وسط صعود عربي بقيادة السعودية يعيد رسم التوازنات. وبينما كانت طهران الطرف المهيمن في سوريا ولبنان والعراق وغزة، أصبحت اليوم لاعبًا من بين عدة لاعبين، تخضع تحركاته لقيود داخلية وإقليمية ودولية.

ويبدو أن الاتفاق السعودي–الإيراني، رغم كونه بداية تهدئة، لم يمنع المملكة من العمل على تحجيم النفوذ الإيراني بشكل هادئ، من خلال الدبلوماسية، الاقتصاد، والتحالفات المتعددة. وهذه التحولات تمثل اختبارًا حقيقيًا للقدرة على الانتقال من منطق الصراع إلى منطق التنافس المسؤول، دون أن يعني ذلك نهاية الصراع بل تغيير قواعده. وعلى الرغم من التقدم الملحوظ في الحوار الدبلوماسي، لا تزال الاختلافات الجوهرية في ملفات مثل النفوذ الإقليمي، الملف اليمني، والبرنامج النووي الإيراني تمثل عقبات أمام أي تسوية كاملة. إلا أن الفرص القائمة في مجالات الطاقة والأمن الإقليمي قد تساهم في تقليص التوترات، خاصة في ظل الضغوط الإقليمية والدولية المستمرة على البلدين للتوصل إلى حلول وسط.

المبحث الثاني:

مواقف البلدين والاقليم من التحولات في ساحات النفوذ

  1. الموقف الإيراني من تراجع النفوذ الإقليمي

أظهرت إيران قدرًا من البراغماتية في التعامل مع التراجع الملحوظ لنفوذها في عدد من ساحات الصراع التقليدية.

 ففي سوريا، بدا واضحًا أن طهران اضطرت إلى القبول بانكماش نفوذها لصالح أطراف أخرى إقليمية ودولية والعودة العربية بقيادة السعودية من جهة أخرى، وهو ما تمثل في عودة سوريا الى الجامعة العربية وترحيب القادة العرب بذلك مع دفعها إلى التركيز على الاحتفاظ بمواقع نفوذ استخبارية وعسكرية محدودة في بعض المناطق الحيوية.

وفي التطورات الأخيرة في سوريا وتقدم قوات الشرع نحو العاصمة السورية، غاب الدور الإيراني العسكري تماما عن المشهد السوري، وفضلت إيران الصمت دبلوماسيا وسياسيا، وهذا مؤشر أن السياسة الإيرانية تمش وفق الاتفاق السعودي الإيراني.

 أما في لبنان، فإن الضربات الموجعة التي تلقاها حزب الله، سياسيًا وأمنيًا، وانهيار الحلفاء التقليديين لإيران، دفع طهران إلى انتهاج خطاب مزدوج: إنكاري من جهة، وتحريكي من جهة أخرى، عبر محاولات خلق توازن جديد داخل الساحة اللبنانية.

وفي العراق، ورغم استمرار النفوذ الإيراني داخل بعض مؤسسات الدولة والميليشيات، إلا أن التوترات الداخلية والانفتاح العراقي على المحيط العربي، وتنامي الشعور الشعبي بالرفض للهيمنة الخارجية، أجبرت إيران على تقليص تدخلها العلني، والسعي لإعادة التموضع عبر آليات ناعمة أقل استفزازًا.

 أما في غزة، فإن الحرب الأخيرة (أكتوبر 2023 – فبراير 2024) مثّلت ضربة استراتيجية قاسية للنفوذ الإيراني، خاصة بعد تقاطع أهداف حماس مع قوى إقليمية أخرى، واتهامات داخلية من الفصائل الفلسطينية لطهران بعدم تقديم دعم مباشر في لحظات الحسم.

في ظل هذا الواقع الجديد، بدا أن إيران باتت أكثر قبولًا بخيار “تثبيت المكاسب” بدلًا من “توسيع النفوذ”، وهو ما انعكس على سلوكها تجاه السعودية. فقد عملت على تخفيف لهجة الخطاب الإعلامي، وتبني لغة أكثر توافقية في الاجتماعات والحوارات المشتركة، لكنها في الوقت نفسه لم تتخلّ عن أدواتها التقليدية، ما يجعل السعودية تتعامل مع هذا التغير بحذر بالغ، وترى أن مرحلة “التهدئة الحذرة” لا تعني بالضرورة تجاوز مرحلة التهديدات.

  • الموقف السعودي من تراجع النفوذ الإيراني:

اتسم الموقف السعودي من تراجع النفوذ الإيراني في المنطقة بقدرٍ عالٍ من الحذر الاستراتيجي والانفتاح المدروس. فقد أدركت الرياض أن التراجع الإيراني لا يعني بالضرورة نهاية النفوذ، بل يمثل فرصة لإعادة تشكيل التوازنات الإقليمية بما يخدم مصالحها الأمنية والسياسية والاقتصادية. وعليه، تبنّت السعودية سياسة “الاحتواء المرن” تجاه إيران، فاستثمرت التحولات الجارية لتعزيز حضورها في ملفات إقليمية دون الاصطدام المباشر مع طهران.

تراجع موقف السعودية بشكل تدريجي تجاه دعم المعارضة المسلحة بشكل كبير، بل وتدريجياً بدأنا نشهد بعض التقارب في العلاقات بين الرياض ودمشق. ففي عام 2023، وبعد سنوات من القطيعة، بدأت السعودية في إعادة فتح قنوات التواصل مع دمشق، مما يعكس تغيرًا في السياسة السعودية تجاه سوريا. السعودية ترى الآن أن استقرار سوريا في ظل بقاء بشار الأسد في السلطة قد يكون الخيار الأفضل في هذا السياق، في وقت تتصاعد فيه التحديات الأمنية والاقتصادية في المنطقة، مع وجود التهديدات الإيرانية المستمرة.

ودعمت الرياض مسار عودة دمشق إلى الحضن العربي ولكن بشروط تتعلق بالتحجيم التدريجي للدور الإيراني، وبتوازي ذلك، أعادت بناء قنوات اتصال أمنية مع النظام السوري السابق لاحتواء التمدد الإيراني دون تفجير الساحة.

وبعد الاحداث السورية الأخيرة ظلت السعودية على تلك المسافة وقد شهدت السياسة السعودية تحولًا من السعي لإسقاط النظام السوري إلى الانخراط في عملية دبلوماسية تشجع على استقرار سوريا، مع الحفاظ على علاقات متوازنة مع إيران والدول الغربية على حد سواء.

 موقف السعودية من حرب غزة ولبنان بعد الاتفاق الإيراني السعودي 2023 شهد تحولًا واضحًا في السياسة السعودية، وذلك في إطار إعادة التوازن لمواقف المملكة إزاء القضايا الإقليمية. هذا التغيير يأتي بعد الاتفاق بين الرياض وطهران الذي تم توقيعه في مارس 2023، والذي عكس تحولًا جذريًا في العلاقات بين البلدين بعد سنوات من التوترات.

مع تطور الأحداث وتوقيع الاتفاق بين الرياض وطهران، بدأت السعودية تقترب من سياسة أكثر واقعية ومرونة، وهي السياسة التي ظهرت جلية في المواقف السعودية من الحرب في غزة والصراع في لبنان.

على الرغم من سياسة التهدئة التي تتبناها الرياض بعد الاتفاق مع طهران، لم تتخلَ السعودية عن موقفها التقليدي الداعم للقضية الفلسطينية. في حرب غزة الأخيرة (2023)، كانت السعودية حريصة على إبراز دعمها للشعب الفلسطيني، ولكن في إطار يراعي توازن العلاقات الإقليمية والدولية.

من الناحية السياسية، حافظت السعودية على موقفها الثابت في دعم حقوق الفلسطينيين، ولكنها بدأت تبتعد عن تقديم الدعم المباشر أو العسكري للمجموعات المسلحة في غزة، بما في ذلك “حماس”، في سياق محاولات تقليص النفوذ الإيراني في المنطقة. هذا التحول يعكس سعي المملكة لاحتواء التوترات الإقليمية ودفع عملية السلام بشكل أكثر توازناً.

المملكة عملت على تجديد الدعوات للسلام والمفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وأكدت ضرورة حل القضية الفلسطينية وفقًا لحل الدولتين. ولكن في الوقت ذاته، كانت السعودية تركز على التهدئة في المنطقة، محذرة من تداعيات الحرب على الأمن الإقليمي والعالمي.

على الرغم من عدم تقديم الدعم العسكري المباشر، كانت السعودية تسعى إلى الحفاظ على علاقات دبلوماسية مع حماس ولبنان، خاصةً في إطار التعاون المستقبلي مع إيران. وهذا يفسر التصريحات السعودية التي تدعو إلى وقف التصعيد في غزة، في الوقت الذي كانت هناك مساعٍ للحفاظ على علاقات باردة ولكن منفتحة مع “حماس”.

الموقف السعودي من لبنان بعد الاتفاق الإيراني السعودي اتسم بالحذر والدبلوماسية. السعودية كانت تسعى إلى التقليل من النفوذ الإيراني في لبنان، خاصة فيما يتعلق بحزب الله، الذي يعد أحد أبرز أذرع إيران في المنطقة. مع ذلك، فإن الموقف السعودي بعد الاتفاق كان أكثر توازنًا، حيث كانت الرياض تدعو إلى استقرار لبنان وتخفيف التوترات السياسية فيه.

السعودية لم تندفع نحو التصعيد مع “حزب الله”، بل كانت تركز على دفع الأطراف اللبنانية نحو الحوار والتوافق الوطني. في هذا السياق، كانت الرياض تروج لمبدأ الحياد اللبناني عن الصراعات الإقليمية، بما في ذلك النزاع الدائر في اليمن.

المملكة أكدت على أهمية الحلول السياسية الشاملة في لبنان، ودعمت تشكيل حكومة لبنانية قادرة على معالجة الأزمات الاقتصادية والسياسية، مع الحفاظ على علاقات وثيقة مع القوى السياسية المعتدلة داخل لبنان. وكان الموقف السعودي من حزب الله أكثر دبلوماسية، حيث حاولت الرياض أن تحافظ على علاقات محايدة مع الأطراف المتعددة في لبنان، من دون التسبب في تصعيد أكبر.

في إطار الاتفاق الإيراني السعودي، بدأت الرياض تتبنى موقفًا أكثر حيادًا تجاه التدخلات الإيرانية في لبنان. على الرغم من دعمها المستمر للقوى اللبنانية المناهضة لحزب الله، إلا أن السعودية كانت تسعى لإعادة الاستقرار إلى لبنان من خلال تسوية سياسية شاملة، مما يعكس تحولًا في سياسة الرياض من المواجهة المباشرة إلى التفاوض الهادئ.

  • إعادة تشكيل التحالفات الإقليمية والدولية

أسهمت التحولات التي طرأت على العلاقات السعودية–الإيرانية منذ اتفاق بكين في مارس 2023 في إحداث ارتدادات واسعة على بنية التحالفات الإقليمية والدولية في الشرق الأوسط. فقد أدى تخفيف التوتر السعودي–الإيراني إلى تراجع منطق “المحاور الصلبة” التي سادت المنطقة منذ ما بعد 2011، والتي قسّمت الإقليم إلى جبهتين متقابلتين: جبهة تقودها السعودية وأخرى تقودها إيران. ومع انتقال العلاقات إلى مرحلة التهدئة المشروطة، بدأت تظهر تحالفات أكثر مرونة وتداخلًا، قوامها المصالح الاقتصادية، والتنسيق الأمني الجزئي، والانفتاح الدبلوماسي المحدود.

في هذا السياق، بدأت السعودية تعيد بناء منظومة علاقاتها الإقليمية بعيدًا عن الاصطفافات التقليدية، متقدمة بمشروع “الاستقرار مقابل التنمية”، وهو ما بدا واضحًا في علاقتها المتطورة مع العراق وسوريا وحتى سلطنة عمان وقطر. كما انعكس ذلك في موقفها من الحرب في السودان، حيث حاولت أن تلعب دور الوسيط لا المنخرط في الاستقطاب العسكري.

على الصعيد الدولي، مثّلت سياسة التهدئة السعودية–الإيرانية تحديًا للنفوذ الأمريكي التقليدي في المنطقة، لا سيما مع الوساطة الصينية في اتفاق بكين، والتي كشفت عن رغبة الرياض في تنويع شركائها الاستراتيجيين والانفتاح على قوى صاعدة مثل الصين وروسيا. ومع تراجع الثقة السعودية بالولايات المتحدة، خاصة بعد أزمة أرامكو عام 2019، بدأت الرياض تتجه نحو سياسة “التحالفات المتوازنة” بدل “التحالفات التابعة”، ما يعزز استقلالية قرارها السياسي.

وفي ظل انسحاب تدريجي أمريكي من المنطقة، برز دور السعودية كقوة إقليمية محورية قادرة على إدارة التوازنات لا مجرد الانخراط فيها. كما انعكس هذا التحول في امتناع السعودية عن المشاركة في تحالف “حماية البحر الأحمر”، بقيادة الولايات المتحدة، رغم تهديدات الحوثيين، وهو ما يؤكد على أن الرياض باتت توازن بين أمنها الإقليمي ومصالحها الجيوسياسية بعقلانية أكبر ومرونة استراتيجية.

رابعا: الاتفاق الإيراني السعودي والتحديات الكبرى

 على الرغم من التحول الكبير الذي شهدته العلاقات بين إيران والسعودية بعد توقيع الاتفاق التاريخي في مارس 2023، فإن هذا الاتفاق لم يكن خاليًا من التحديات الكبرى التي تواجه كلا البلدين في سياق الإقليم المتوتر. هذه التحديات تشمل موازنة المصالح المتناقضة، والحفاظ على الاستقرار الداخلي، وتحقيق المصالح الإقليمية والدولية في ظل تزايد الضغوط من أطراف مختلفة.

  1.  المسألة النووية الإيرانية

يبقى الملف النووي الإيراني من القضايا الأكثر تعقيدًا في العلاقات بين البلدين. بينما تستمر المفاوضات الدولية حول برنامج إيران النووي، فإن الرياض تراقب عن كثب هذه التطورات، مع قلق متزايد من أي توافق دولي قد يؤدي إلى رفع العقوبات عن إيران، مما قد يسمح لها بتعزيز قوتها الاقتصادية والعسكرية في المنطقة. على الرغم من ذلك، تجنبت السعودية الدخول في مواجهة علنية مع القوى الكبرى بشأن الاتفاقات النووية، وفضلت البحث عن حلول إقليمية تضمن استقرار المنطقة.

  • التعاون في مجال الأمن والطاقة والاستثمار في ظل الحصار الدولي

رغم كل هذه التحديات، تبدو الفرص المستقبلية في مجال التعاون الأمني والاقتصادي بين السعودية وإيران أكثر وعدًا. التحولات الاقتصادية العالمية، وأبرزها الأزمة النفطية في أعقاب الحرب الأوكرانية، جعلت السعودية أكثر استعدادًا لتعزيز التعاون مع طهران في مجال الطاقة، خاصة في ظل التنافس المتزايد على الأسواق العالمية. وفي مجال الأمن الإقليمي، هناك فرص لتعاون سعودي-إيراني في مواجهة التهديدات المشتركة من التنظيمات الإرهابية، مثل داعش، والحد من التهديدات البحرية في مضيق هرمز.

التوتُّرات الإقليمية بعد 7 أكتوبر 2023م مثَّلت إرباكًا واختبارًا ميدانيًّا للرياض وطهران، في كيفية الإبقاء على وِفاقهما دون الإضرار بمصالحهما المتباينة. فقد ترتَّب على عودة علاقاتهما افتتاح سفارتيهما بعد 7 أعوام من التوقُّف، ليبدأ مشوار محاولات بناء الثقة بينهما، بعدها التقى ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، على هامش انعقاد القمة العربية-الإسلامية الاستثنائية في الرياض. كما أُجريت زيارات مُتبادَلة بين كبار مسؤولي الدولتين، ومناقشات ولقاءات سعودية-إيرانية نادرة شهدت حضورًا عسكريًّا في الرياض، لكنَّها بقِيَت دون تطوُّر فعلي.

نُلاحظ أيضًا خلال هذا العام، تخفيف الإعلام الإيراني الرسمي وشبه الرسمي حملته لمهاجمة السعودية، وإن كانت لا تزال سلبية في كثير من الأحيان وخرقًا للاتفاق، لكنّها أقلّ حدَّة، مقارنةً مع فترة ما قبل الاتفاق. وفي المقابل، تحلَّى الإعلام السعودي بالمسؤولية الشديدة والعقلانية، تجاه الاتفاق، فلم تشنّ وسائل الإعلام السعودية أيّ هجوم تجاه إيران، لكن الفارق في حالة السعودية، أنَّ ما يجري هو تغيُّرٌ واقعي وإستراتيجي يمَسُّ التحديثات الجارية، وفلسفة الحُكم الجديدة، والانشغال بالتحديث والبناء والعمران.

اقتصاديًّا، اتّضح عدم حدوث تقارُب ملموس بين البلدين، باستثناء تفاعلات محدودة تدور حول تبادُل الزيارات الرسمية والتصريحات الإيجابية بين مسؤولي البلدين، خصوصًا من الجانب الإيراني، الذي بدا أكثر رغبةً وإلحاحًا في تسريع التقارب الاقتصادي مع السعودية، بحُكم الضائقة المالية والعقوبات المفروضة منذ عام 2018م، على الرغم من أنَّ كثيرًا من هذه العقوبات غير مُفعَّلة على واقع الأرض، وظلَّت حبرًا على ورق. فيما اتضح التأنِّي السعودي في التقارب الاقتصادي مع إيران، لاعتبارات اقتصادية وسياسية مرتبطة بظروف دولية، وبتاريخ وطبيعة علاقات البلدين، وبعدم رغبة القطاع الخاص السعودي في المغامرة بعلاقات تجارية مع إيران قد تقود إلى نتائج سلبية عليها؛ بسبب خرْق العقوبات على إيران.

انعكست المصالحة أيضًا على المشهد السياسي العربي، إذ عقِبَ إتمامها بدأت خطوات إعادة العلاقات السعودية-السورية تتسارع، وعادت سوريا إلى مقعدها بالجامعة العربية وشارك الرئيس بشار الأسد في القمّة العربية الـ 32 بجدة. لكن على الرغم من تحسُّن العلاقات بين سوريا والسعودية، فإنَّ الملفّات الخلافية الأخرى بقيت جامدة، ومنها ما تمارسه طهران على جغرافية سوريا، من عمليات توسُّع بنيوي، وتهريب أسلحة ومخدِّرات، وتهديد الجوار الأردني؛ ما يتعارض وبنود اتفاق بكين بـ«الامتناع عن تهديد دول الجوار».

خلال عامٍ من إعلان المصالحة السعودية-الإيرانية، خفَّض «حزب الله» اللبناني التصعيد الذي اعتاده ضدّ السعودية. لكن بقِيَ التلويح بقضايا حدودية بين إيران ودول المنطقة؛ وهُنا يأتي الخلاف القديم-المتجدد حول حقل الدرّة بين الكويت والسعودية من جهة، وإيران من جهة أخرى، بجانب الجُزُر الثلاث المُتنازَع عليها بين إيران والإمارات، إحدى أهمّ البؤر الساخنة في اختبار مسار العلاقات السعودية-الخليجية مع إيران.

مثَّلت حرب غزة أيضًا لحظةً سياسيةً أخرى مهمَّة لاختبار صلابة الاتفاق، فالدولتان لا ترغبان في توسُّع صراع غزة، وتسعيان إلى وقْف الحرب، وتُدينان الدمار الذي ألحقته إسرائيل بغزة وسُكّانها، لكنَّ تبايُن أهدافهما لم يعرقل علاقتهما، فيما ذهبت المملكة إلى محاولة إيجاد مخرج لهذه الحرب وللملف الفلسطيني-الإسرائيلي عمومًا، كذلك رفضت دعوات الانضمام إلى التحالف الدولي بالبحر الأحمر، الذي تقوده واشنطن، مع إبقاء الباب مفتوحًا أمام الإستراتيجية السعودية بدفع الإدارة الأمريكية نحو حلٍ دائم للأزمة الفلسطينية، وتحديدًا حل الدولتين. أمّا الجانب الإيراني، فقد استثمر هذه الأزمة للترويج للميليشيات التابعة له في العراق واليمن، ومحاولة اللعب على عواطف المسلمين إعلاميًا، دون أيّ اكتراث بالدم الفلسطيني.

على صعيد الملف اليمني، كانت الجهود والمبادرات السعودية-العُمانية، هي العامل الأبرز لجعل مسار التسوية السياسية في صدارة المشهد اليمني، لكنَّ عوامل ارتبطت بالدور الإيراني-الحوثي عقَّدت مسار التسوية السياسية، فقد دخلت الميليشيات الحوثية خط المواجهة مع ما يُسمَّى «محور المقاومة» بعد عملية «طوفان الأقصى»، واستهدفت الملاحة البحرية في خليج عدن وباب المندب، وأطلقت مقذوفات على إسرائيل؛ ما أدَّى إلى تشكيل تحالُف لحماية الملاحة في باب المندب والبحر الأحمر، فضلًا عن شنّ أمريكا وبريطانيا عدَّة هجمات استهدفت القُدرات الحوثية باليمن. وهذا لا يخدم مسار الحل السياسي في اليمن، فيما بقِيَت الرغبة الإيرانية محتفظةً بالورقة الحوثية، إذ استمرّ دعْم إيران للحوثيين سياسيًّا وعسكريًّا، حتى في هجماتهم على السفن التجارية.

في العموم، أظهرت الاختبارات، التي اجتازها الاتفاق السعودي-الإيراني خلال عام فُرَصًا تُتيح المجال لدفع علاقات الطرفين إلى مستوى أعلى، فعلاقات البلدين تعاني أزمةَ ثقة نتيجةَ أربعين سنة من الاضطرابات، وأعتقدُ أنَّ قُدرة الصين على رعاية الاتفاق أحدثت لها نقلةً كبيرةً جدًّا في أدوارها الدبلوماسية دوليًّا؛ ما يحفزها على صون نجاح الاتفاق بصورة مستدامة، والتصدِّي لمحاولات إفشاله.

يبقى التحدِّي الأكبر في تقلُّب المواقف الإيرانية، ففي جُلّ الأزمات السابقة غالبًا ما كان الفعل يصدُر من إيران، أمّا السعودية فكانت مواقفها ردّ فعل؛ وبالتالي فإنَّ هواجس التنصُّل من التزامات الاتفاق انطلاقًا من التجارب السابقة، يُتوقَع أن يكون مصدرها إيرانيًّا، خصوصًا حال حصول تطوُّرات جوهرية لعوامل داخلية أو خارجية، تدفع بصانع القرار الإيراني إلى تأزيم العلاقات مع السعودية.

لقد عمِلَ النظام الإيراني من أول لحظة للاتفاق على توظيفه في تعزيز نفوذه إقليميًّا. فبناءً على الاتفاق، فتحت إيران نافذةً لاستعادة العلاقات مع مصر والسودان؛ وبالتالي محاولات جديدة للنفوذ في البحر الأحمر وأفريقيا، وهو ملف يجب متابعته بدقَّة عالية، وتجنُّب خلْق المزيد من الميليشيات والخلايا على الضفّة الغربية للبحر الأحمر.

على ضوء هذه التطوُّرات، يمكن رسْم سيناريوهات لمستقبل اتفاق بكين، الأول هو استمرار نجاح الاتفاق وحل معظم الملفّات العالقة بين البلدين، بما فيها الأزمة اليمنية. والثاني إدارة التنافس بين البلدين دون عودة التوتُّر، وهو السيناريو الأكثر احتمالية. أمّا السيناريو الأخير فهو عودة التوتُّرات، وهو الأقلّ احتمالية، إذا لم تحدُث تطوُّرات إقليمية تؤثِّر في المشهد، لاسيما توجهات دونالد ترامب المتشددة نحو إيران، لكن يبقى الاتفاق ضرورةً للجانبين، خصوصًا لإيران، التي تحتاج إلى الخروج من مأزقها الداخلي وأزمتها الاقتصادية.

من جهة أخرى، تبقى العلاقات التركية-السعودية تحديًا أمام العاهل الجديد تستوجب حميمية وتقاربًا يخدم مصالح الطرفين المكملين لبعضهما دينيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا وجيوستراتيجيًّا. وإزالة الاختلافات وليست الخلافات العالقة مع الحليف الاستراتيجي الأميركي تبقى مطلبًا موضوعيًّا، تُوحي زيارة أوباما الأخيرة إلى المملكة بأنه قد ينقشع ضبابها. وسياسة المملكة النفطية ستكون أحد الاهتمامات الشخصية للعاهل الجديد. أمَّا لَمُّ الشمل العربي وإحياء التعاون العسكري المشترك بين دوله الفاعلة فمن المتوقَّع له أن يحظى بأهمية خاصة؛ بما يتضمنه من تسريع مشروع الوحدة الخليجي كمحرِّك لهذا المشروع العربي. وقضايا أخرى خارجية في أبعادها السياسية والأمنية والاقتصادية تتطلب من المملكة أن تضع لها أولويات تُناسب مستوى عائدها على المصالح الوطنية.

في ختام هذا التقييم للعلاقات السعودية–الإيرانية بعد عامين من اتفاق بكين في 10 مارس 2023، يمكن القول إن الاتفاق مثل نقطة تحول مهمة في العلاقات بين البلدين بعد سنوات من التوتر والصراع. ورغم أن هذا الاتفاق أتاح فرصة لتخفيف التوترات وإعادة فتح قنوات الحوار، إلا أنه كشف عن استمرار التحديات التي تواجه الطرفين فيما يتعلق بالقضايا الإقليمية المعقدة، مثل الملف اليمني، النفوذ الإيراني في دول مثل سوريا ولبنان والعراق، وأمن الطاقة.

فيما يتعلق بمؤشرات التقدم الدبلوماسي، حققت العلاقات السعودية–الإيرانية بعض الإنجازات الهامة مثل إعادة فتح السفارات وتخفيف الخطاب الإعلامي بين الطرفين، مما يشير إلى أن هناك بداية للتهدئة ولكن ضمن حدود معينة. ومع ذلك، بقيت القضايا الكبرى، مثل النفوذ الإيراني في المنطقة، محورًا رئيسيًا للاختلافات.

أما بالنسبة لمؤشرات نجاح بند “عدم التدخل في الشؤون الداخلية”، فقد تجلت في تراجع إيران عن بعض تدخلاتها العسكرية التقليدية في المنطقة، وإن كانت ما زالت تحاول الحفاظ على نفوذها عبر أدواتها غير المباشرة، مثل دعم الحوثيين. من جهة أخرى، كانت السعودية تعمل على تحجيم هذا النفوذ من خلال دبلوماسية حذرة وانفتاح على تحالفات جديدة، خاصة في سوريا والعراق.

في ظل هذه التحولات، يمكن القول إن الاتفاق السعودي–الإيراني لا يزال يشكل تحديًا حقيقيًا للطرفين، حيث يواجه كل منهما ضغوطًا داخلية وإقليمية. وفي حين أن هناك تطورًا دبلوماسيًا واضحًا، يبقى التساؤل حول ما إذا كان هذا التحول سيؤدي إلى تسوية شاملة أو مجرد إدارة مؤقتة للصراع قائمًا، حيث أن الملفات الخلافية الكبرى قد تستمر في التأثير على العلاقات المستقبلية بين البلدين.

في النهاية، يبدو أن ما تحقق من نتائج في هذه المرحلة يتسم بالحذر، مما يعكس واقع العلاقات المتشابكة والمعقدة التي تستدعي مزيدًا من الجهود للتوصل إلى حلول مستدامة من أجل تجاوز التحديات وتحقيق الاستقرار الإقليمي.

الفصل الخامس:

الآفاق المستقبلية للعلاقات السعودية الإيرانية

المبحث الأول:

العوامل المؤثرة في مستقبل العلاقات السعودية الإيرانية

تعد العلاقات بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية من أبرز العلاقات الثنائية في منطقة الشرق الأوسط، حيث تجمع بين هذين البلدين العديد من العوامل المعقدة والمتشابكة. ورغم أن هذه العلاقات شهدت تباينًا ملحوظًا في الفترات الأخيرة، إلا أن هناك تحولات جديدة قد تكون مؤشرا على مستقبل مختلف للعلاقات بينهما. في هذا الفصل، سنناقش الآفاق المستقبلية للعلاقات السعودية – الإيرانية في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية، مع التركيز على فرص التعاون والتحديات التي قد تواجه هذا التعاون في المستقبل القريب.

إن التغيرات في السياسة الدولية، لا سيما التوجهات الجديدة للقوى الكبرى مثل الولايات المتحدة والصين، ستكون لها تأثيرات كبيرة على العلاقات بين السعودية وإيران. مع تزايد نفوذ الصين في منطقة الشرق الأوسط، خاصة في السنوات الأخيرة، قد تشهد الرياض وطهران إعادة تقييم علاقاتهما مع القوى العالمية. اتفاقيات التعاون الموقعة بين السعودية والصين، لا سيما في مجالات الاقتصاد والتكنولوجيا، قد تساهم في تغيير ديناميكيات السياسة الإقليمية.

ويبدو من سياق العلاقات التاريخية بين إيران والسعودية، أن العوامل المركزية في تحديد مستقبل العلاقة تتمثل في الآتي:

أولا: التأثير الأمريكي على الطرفين: 

تشكل المساندة الأمريكية للسياسات السعودية في أغلب الأحيان عاملاً حاسماً في العلاقات بين إيران والسعودية، كما أن الضغوط الأمريكية على إيران تمثل المعيق الأكبر لحركتها الدولية سواء اقتصادياً أم سياسياً أم عسكرياً، ويمكن أن تتأثر العلاقة السعودية الإيرانية بعاملين في المستقبل:

  1. موضوع الاتفاق النووي الإيراني الأمريكي: 

إذا تمّ حلّ هذه المعضلة فإن ذلك سيشكل عامل استرخاء لتأثير الولايات على العلاقة مع السعودية للضغط على إيران، لكن فشله وتصاعد التوتر قد يزيد من الضغط الأمريكي على السعودية لإعادة النظر في بعض جوانب التفاهم مع إيران. والملاحظ أن ولي العهد السعودي ربط توجه بلاده بخصوص امتلاك السلاح النووي بالتوجه الإيراني، إذ قال “إذا حصلت إيران عليه فعلينا أن نحصل عليه لأسباب أمنية ولتوازن القوى”[23] دون أن يشير إلى امتلاك اسرائيل لهذا السلاح. إن المتغيرات الأكثر قوة في تراجع العلاقات بين البلدين هما التأثير الأمريكي والعلاقة أو التطبيع مع “إسرائيل”، وهذا العاملان يشكلان نحو 45% من مجموع المؤشرات ذات التأثير السلبي على العلاقة بين البلدين، ويكفي ملاحظة أن الولايات المتحدة تحتفظ بمعدل تواجد عسكري يتراوح بين 30 و34 ألف من أفراد قواتها العسكرية البرية والجوية وأفراد أسطولها وقوات سلاح مشاة البحرية الأمريكية المارينز marines في المنطقة، وتبرر تواجدها العسكري وما تزال بأسباب عدة منها[24]

  • التأثير الصيني على الطرفين: 

يمثل هذا العامل متغيراً إيجابياً نظراً لحاجة الصين لكل من البلدين من ناحية، ونظراً للرغبة داخل الطرفين في التخفيف من الضغوط الداخلية أو الإقليمية أو الدولية عليهما من ناحية ثانية.

أهمية كلّ من السعودية وإيران لمشروع الحزام والطريق Belt and Road Initiative، والحاجة الصينية لبيئة أمنية عبر هذا المشروع. وتحتل كل من البلدين موقعاً مركزياً في البُعد الجيو-اقتصادي والجيو-سياسي للمشروع الصيني، خصوصاً في بعده البحري.

اتساع حجم العلاقات الصينية مع البلدين واعتمادها النفطي عليهما، فطبقاً للإحصاءات الرسمية السعودية بلغ حجم التجارة بين الصين والسعودية نحو 106 مليار دولار بزيادة نحو 30% عن سنة 2021، وبالمقارنة فإن هذا الرقم يعادل تقريباً ضعف حجم التبادل التجاري الأمريكي السعودي الذي بلغ 55 مليار دولار في الفترة نفسها، ناهيك عن أن الصين تستورد رُبع حاجتها النفطية من الدولتين (من السعودية 19%، وإيران 6%) سنة 2022 إلى جانب أن انضمام السعودية وإيران إلى منظمة بريكس BRICS سيعزز هذه المصالح الصينية خصوصاً لمواجهة العقوبات الأمريكية، والضغط على مركزية الدولار في الأسواق الدولية، إلى جانب أن إيران والصين وقَّعتا اتفاقاً لاستثمارات مشتركة بينهما خلال الـ 25 سنة القادمة، وتبلغ قيمتها الإجمالية نحو 400 مليار دولار. [25] 

 التباين بين الطرفين في موضوع “إسرائيل”: من مصلحة الصين توسيع دائرة العلاقة العربية الإسرائيلية لأن ذلك ييسر سيولة الحركة على الطريق وفي الحزام الصيني، كما هو الحال في مشروع جيزان السعودي الصيني، على الرغم من أن “إسرائيل” أقل اندفاعاً للترحيب بدور صيني في تسوية الصراع العربي الإسرائيلي، وترى فيه السعودية عاملاً أقرب لها وأكثر مساندة لنزعتها المركزية المأمولة، خصوصاً أن السعودية تستشعر تراجعاً في المكانة الشرق أوسطية في الاستراتيجية الأمريكية، وهو ما قد يدفعها أكثر باتجاه الصين، بينما لا ترى إيران في العلاقة الإسرائيلية الصينية إلا توجهاً لا يصب في مصلحة نزوعها المركزي، لا سيّما في ضوء الخطاب السياسي الإيراني المساند لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي مقاومة عسكرية وسياسية واقتصادية، ذلك يعني أن المسافة السياسية الفاصلة بين السعودية والصين في الصراع العربي الإسرائيلي أقصر من المسافة الفاصلة بين إيران والصين في هذا الجانب [26]

غير أن المشهد الأخير في العلاقات الإيرانية السعودية الصينية يشير إلى تطور ينطوي على قدر من الاضطراب، فإعلان السعودية والهند في أيلول/ سبتمبر 2023 عن مشروع “الممر الاقتصادي Economic Corridor” لربط الهند بأوروبا عبر السعودية والإمارات المتحدة والأردن و”إسرائيل”، يمثّل مشروعاً منافساً للمشروع الصيني “الحزام والطريق”، وهو ما يفسره الترحيب الشديد من كل من أمريكا و”إسرائيل” بالمشروع الجديد، لا سيّما أن هذا المشروع يقوم على بناء بنية تحتية في الموانئ والسكك الحديدية والكابلات لنقل البضائع والنفط والبيانات…إلخ، وهو ما قد يجد أيضاً قدراً من القلق المصري لما قد يؤثره هذا المشروع على قناة السويس، فالخبراء الهنود يقدرون أن مشروع بلادهم سيخفض مدة النقل بين أوروبا والهند ما بين 8 إلى 12 يومأ مقارنة بالنقل عبر قناة السويس. ولا شكّ أن إيران لا تنظر لهذا المشروع بارتياح خلافاً لنظرتها للمشروع الصيني خصوصاً أنها تدرك أن بين الصين والهند نزاعات حدودية، تسببت في اشتباكات عسكرية في السنوات 1962، و1967، و1978، و2018، و2020، ناهيك عن أن باكستان ستكون طرفاً في هذا التنازع على المنطقة بحكم عمق علاقاتها بكل من الصين والسعودية وإيران.

  • العلاقة مع “إسرائيل”: 

على الرغم من شروع السعودية في اتخاذ بعض الإجراءات الرمزية للتطبيع مع “إسرائيل”، إلا أن التردد في مواصلة ذلك تشكل نقطة تشجيع من إيران التي تقف ضدّ التطبيع وبأي شكل من الأشكال، فعلى الرغم من أن أغلب دول الخليج (باستثناء الكويت) مارست مستوى من مستويات التطبيع أو كل المستويات لكن علاقاتها مع إيران لم تتجاوز حدّ المعارضة الإيرانية التقليدية للتطبيع، بل إن العلاقات التجارية بين إيران والإمارات العربية تزايدت بعد التطبيع الإماراتي مع “إسرائيل”، على الرغم من أن دولة الإمارات أصبحت تحتل المرتبة 16 بين الدول الـ 126 التي لها علاقات تجارية مع “إسرائيل [27]

  • التحولات الإقليمية في الشرق الأوسط

منطقة الشرق الأوسط تشهد تحولًا ديناميكيًا مستمرًا، وقد يكون لهذا التحول دور كبير في تحديد مسار العلاقات السعودية – الإيرانية. التحولات في سوريا والعراق واليمن ولبنان تؤثر بشكل مباشر على التنافس الإقليمي بين البلدين. في ظل الاضطرابات في بعض الدول العربية، مثل النزاع في اليمن وتطورات الأوضاع في لبنان والعراق، قد تواصل كل من الرياض وطهران محاولاتهما لتعزيز نفوذهما.

إن الصراعات المستمرة في اليمن وسوريا والعراق تشكل تحديًا رئيسيًا في العلاقات بين البلدين. التحالفات الإقليمية والموالين لكل من إيران والسعودية في هذه الصراعات تعتبر من أكبر ملامح التوتر بين البلدين، وقد يتطلب حل هذه الأزمات تعاونًا بين   ومع ذلك، قد توفر هذه الصراعات فرصة لكلا البلدين لإجراء محادثات دبلوماسية أكثر جدية من أجل تسوية النزاعات، سواء على مستوى الحدود أو على مستوى الملفات الإقليمية. التحديات المذهبية والاختلافات الدينية.

على الرغم من وجود روابط دينية إسلامية بين السعودية وإيران، إلا أن الاختلافات المذهبية تبقى أحد أكبر العوامل التي قد تؤثر على العلاقات بين البلدين. فالاختلاف بين السنّة والشيعة يظل مصدرًا للتوترات الإقليمية، خاصة في البحرين والعراق. 

المبحث الثاني”

التحديات الداخلية في كل من السعودية وإيران

الأوضاع الداخلية في كلا البلدين تشكل تحديات أيضًا أمام تطوير العلاقات بينهما. في السعودية، قد تواجه المملكة ضغوطًا من الرأي العام بشأن أي تقارب مع إيران في ضوء التأثيرات الشعبية والسياسية لهذه العلاقات. في إيران، قد تشكل الضغوط الداخلية والاقتصادية بسبب العقوبات الغربية عقبة أمام تحسين العلاقات مع المملكة.

  1. الشقاق المذهبي بين البلدين: 

شكَّل هذا المتغير الثقافي والتاريخي نقطة مركزية في الخطاب الثقافي في البلدين على الرغم من أن حدته في السعودية أعلى منه في ايران، وهو ما تبين لنا في دراسة سابقة من خلال تحليل مضمون الخطابات الدينية في الدولتين.[28]

  • نشوب نزاعات طارئة بين البلدين: 

لمّا كان الشرق الأوسط هو الأعلى بين أقاليم العالم الأخرى في مستويات عدم الاستقرار،[29] فمن الطبيعي أن ينعكس ذلك على العلاقات بين البلدين، ولعل آخر مظاهر ذلك هو الخلاف على حقل الدرة في مياه الخليج بين كلّ من الكويت والسعودية من ناحية وإيران من ناحية أخرى [30]ناهيك عن موضوعات نزاع كامنة مثل موضوع الجزر الثلاث مع الإمارات المتحدة، والتي يمكن أن تطفو على سطح العلاقات مع إيران مرة أخرى.

  • التغير في قيادات البلدين: 

على الرغم من أن دور المرشد الأعلى في إيران هو الأكثر وزناً في صنع القرار الاستراتيجي، إلا أن توجهات الرؤساء الإيرانيين بخصوص العلاقة مع السعودية بشكل خاص تتباين وتترك أثراً غير كبير. فمنذ نشوب الثورة الإيرانية إلى الآن تولى رئاسة إيران ثمانية رؤساء ومرشدان أعلى، دون أن يعرف الاتجاه الأعظم للعلاقة السعودية الإيرانية تحولاً استراتيجياً، كما أن أربعة ملوك تولوا قيادة السعودية ولم يترك أي منهم تحولاً استراتيجياً في العلاقة مع إيران، بل إن العلاقة بعد صعود الأمير محمد بن سلمان منذ 2015 في السلم القيادي للدولة، غلب عليها التشدد في العلاقة مع إيران، لكن القصور الميداني السعودي في المواجهة ترك أثره على توجهات الدولة السعودية في السنوات الثلاث الماضية. وعليه فإن وفاة الملك سلمان (88 عاماً)، أو وفاة المرشد الإيراني علي خامنئي (84 عاماً)، قد يترك بعض التغير التكتيكي لا الاستراتيجي على العلاقة، استناداً للنمط التاريخي في العلاقة بين الطرفين.

  • عدم استبعاد النزعة “الميكيافيلية” لقيادة البلدين السعودية وإيران

لا يمكن فصل التحول الاستراتيجي في العلاقات بين السعودية وإيران عن النزعة “الميكيافيلية” التي قد تظل حاضرة في توجيه قرارات القيادة في البلدين، خصوصًا في ظل التحولات الجيوسياسية والتحديات الكبرى التي تواجههما على الصعيدين الداخلي والإقليمي. “الميكيافيلية” في سياق العلاقات الدولية تشير إلى البراغماتية المفرطة، التي تركز على تحقيق المصالح العليا للدولة دون الاكتراث بالمبادئ الأخلاقية أو المعايير التقليدية، بل عبر تكتيكات ووسائل قد تكون في كثير من الأحيان غير مبدئية أو غير تقليدية.

تُعتبر النزعة “الميكيافيلية” في السياسة أحد العناصر البارزة التي قد تكون مرتبطة بشخصية الأمير محمد بن سلمان، وهو ما أشار إليه العديد من الباحثين الغربيين الذين درسوا تطور شخصيته ومسيرته السياسية منذ توليه ولاية العهد في 2015. يُقال إن الأمير محمد بن سلمان يعتبر نيكولو ميكافيلي قدوة له، وهو ما يتضح في توجهاته السياسية التي تعتمد على البراغماتية المطلقة والتعامل مع الواقع السياسي وفقًا لمبدأ “الغاية تبرر الوسيلة”. هذه المواقف تنعكس في سياساته الداخلية، مثل الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية التي أطلقها ضمن رؤية 2030، وكذلك في سياساته الخارجية التي تتسم بالتنقل بين تحالفات استراتيجية مع قوى كبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا، فضلاً عن اتخاذ قرارات قاسية قد لا تلتزم بالمعايير الأخلاقية التقليدية إذا كانت تصب في مصلحة المملكة. هذه النزعة الميكيافلية تتجلى في تدبيره للأزمات الداخلية والخارجية وتحقيق الأهداف الاستراتيجية، ما يعزز من نظرية الباحثين الذين يرون فيه تجسيدًا لأفكار ميكافيلي حول السياسة الواقعية والسلطة..[31] وهو ما يعني أن احتمالات “نكوصه” عن مواقف سابقة من وجهة نظر أمريكية غير مستبعدة، خصوصاً في ظلّ الضعف الشديد في مستوى الثقة الأمريكية في استقرار رؤيته الاستراتيجية لعلاقات بلاده. وفقاً لاستطلاعات الرأي الأمريكي، لم تتجاوز نسبة الثقة في هذه الرؤية 20% في الولايات المتحدة و6% في “إسرائيل”.

هذا يشير إلى أن السياسة السعودية تحت قيادة الأمير محمد بن سلمان قد لا تكون ثابتة أو متوقعة في نظر الحلفاء التقليديين مثل الولايات المتحدة و”إسرائيل”، خاصة إذا دعت الحاجة إلى التكيف مع المتغيرات الإقليمية والدولية. يُظهر هذا الوضع التحديات التي تواجه الرياض في تعزيز استراتيجيتها على الصعيدين الإقليمي والدولي في ظل التوترات المتزايدة والعلاقات المتغيرة مع القوى الكبرى.[32] بل إن الرئيس السابق لمجلس الشؤون الخارجية الأمريكي ريتشارد هاس Richard Haass دعا في مقال له إلى “ضرورة التمييز بين الأمير محمد بن سلمان والمملكة السعودية، وضرورة تقليص التعامل مع الأمير من قبل الجهات الأمريكية المتنفذة، وأن على الولايات المتحدة أن لا تدعو لرحيل الأمير بشكل صريح ولكن “محمد بن سلمان يعرض مستقبله للخطر[33].

  • السياسة الخارجية للمرشد الأعلى الإيراني، آية الله علي خامنئي

تُعد السياسة الخارجية للمرشد الأعلى الإيراني، آية الله علي خامنئي، مثالًا حيًا على تطبيق المبادئ الميكيافيلية في السياسة، والتي تركز على تحقيق المصالح بأي ثمن، دون الالتزام بالمبادئ الأخلاقية التقليدية. بالنسبة لخامنئي، فإن السياسة ليست مجرد أداة لتحقيق أهداف مبدئية أو نظرية، بل هي وسيلة عملية لخدمة المصالح الوطنية الإيرانية، بغض النظر عن الطريقة المتبعة لتحقيق هذه المصالح. يتمثل هذا التوجه في عدة مجالات، بدءًا من السياسة الخارجية وصولًا إلى العلاقات الداخلية.

أحد أبرز السمات الميكيافيلية في سياسة خامنئي هو البراغماتية العالية التي يظهرها في التعامل مع القوى الكبرى والإقليمية. فعلى الرغم من المواقف الحادة التي تبناها تجاه العديد من الدول الغربية والعربية، فقد أظهرت السياسة الإيرانية في عهد خامنئي استعدادًا للتفاوض والمرونة عندما تقتضي الضرورة. هذه المواقف المرنة تتغير وفقًا للمتغيرات الجيوسياسية، دون النظر إلى الأيديولوجيا الثابتة، بل بناء على تقييمات لحجم المكاسب والمخاطر.

على سبيل المثال، في فترات مختلفة، أبدت إيران استعدادًا للحوار مع الولايات المتحدة من خلال الاتفاق النووي الإيراني (JCPOA)، رغم العداء المستمر بين البلدين. وقد ساعدت هذه المفاوضات في تخفيف بعض العقوبات الاقتصادية التي كانت تؤثر بشدة على الاقتصاد الإيراني، وهو ما يعكس تفكيرًا ميكيافيليًا في تجاوز العواقب الوخيمة للوضع الراهن مقابل المصلحة الكبرى التي تتمثل في تقليل الضغوط الخارجية.

تُظهر سياسة خامنئي الخارجية أيضًا توازنًا دقيقًا في التحالفات الإقليمية والدولية. فقد استطاعت إيران تحت قيادته إقامة تحالفات مع دول متعددة في المنطقة، مثل سوريا وحزب الله في لبنان، وهو ما يعكس توظيفًا لسياسة القوة الناعمة. ومع ذلك، في نفس الوقت، أظهرت إيران استعدادًا لتعديل مواقفها تجاه بعض القوى الإقليمية مثل المملكة العربية السعودية، عندما دعت الظروف لذلك.

هذه السياسة لا تعتمد على الثبات العقائدي أو الأيديولوجي، بل على الحسبة الدقيقة لمصالح إيران. فعلى سبيل المثال، رغم العداء التاريخي بين إيران والسعودية، سعى خامنئي إلى إبقاء الباب مفتوحًا للحوار في فترات معينة من أجل تحسين الوضع الأمني والسياسي في المنطقة، خاصة في مواجهة الضغوط الدولية.

الميكيافيلية في السياسة الإيرانية لا تقتصر فقط على استخدام القوة أو المساومات السياسية، بل تمتد أيضًا إلى القدرة على الدخول في تسويات وتهدئة الأوضاع عندما تقتضي الحاجة. وهذا يتجلى في عدة حالات، مثل تخفيف حدة التصعيد في بعض القضايا الإقليمية مثل الصراع في اليمن أو العراق، حيث تكون إيران مستعدة للتفاوض على حساب بعض مصالح حلفائها، إذا كان ذلك يخدم مصالحها على المدى الطويل.

إن هذه القدرة على التكيف والتنازل مؤقتًا ترجع إلى الفهم العميق لواقع أن الاستقرار الطويل الأمد يعتمد على القدرة على إدارة التحولات الدولية، لا سيما في مواجهة الضغوط الأمريكية والعقوبات الغربية. وبالتالي، يعتبر خامنئي أن المصلحة العليا لإيران تتطلب في بعض الأحيان التغاضي عن بعض القيم الأيديولوجية أو التخلي عن بعض المكاسب التكتيكية مؤقتًا، طالما أن ذلك يسهم في استقرار البلاد على المدى البعيد[34].

***

في ختام هذا المبحث، يتبين أن العلاقات السعودية-الإيرانية خلال الفترة من 2015 إلى 2025 قد شهدت تحولات كبيرة، تجسدت في تفاعلات معقدة بين التوترات والصراعات الإقليمية من جهة، وفرص التعاون والتفاهم من جهة أخرى. مع ازدياد التحديات الجيوسياسية والاقتصادية في المنطقة، تظل هذه العلاقة محورية بالنسبة للأمن الإقليمي والدولي.

على الرغم من الصراعات المستمرة في العديد من الملفات مثل اليمن وسوريا، إلا أن هذه العلاقة أيضًا قد شهدت فترات من الانفراج، يمكن أن تفتح أمام البلدين أفقًا من التعاون الاستراتيجي. يتطلب هذا المستقبل القريب تفعيل المزيد من الدبلوماسية الهادئة والناضجة، وتعزيز التعاون في المجالات التي تشكل مصالح مشتركة، خاصة في ظل الأزمات العالمية التي قد تساهم في تحفيز التعاون بينهما.

من الأهمية بمكان أن تواصل السعودية وإيران استكشاف سبل بناء الثقة بينهما، والبحث عن توافقات سياسية وأمنية تساهم في استقرار المنطقة. فالمسار المستقبلي للعلاقات بين البلدين سيكون حاسمًا في تحديد أطر التعاون الإقليمي وكيفية إدارة الأزمات التي قد تنشأ في المستقبل.

ختامًا، إن أي تقدم في العلاقات السعودية الإيرانية يجب أن يُبنى على أسس من الاحترام المتبادل والاهتمام بالمصالح الوطنية، مع التفهم الكامل لخصوصية الهويات الثقافية والسياسية لكل منهما. قد تكون هذه العلاقات، بالرغم من تعقيداتها، فرصة كبيرة لصياغة مستقبل أكثر استقرارًا وازدهارًا للمنطقة ككل

نتائج الدراسة:

تُعد العلاقات السعودية–الإيرانية واحدة من أكثر العلاقات تعقيدًا وتأثيرًا في منطقة الشرق الأوسط، إذ لم تقتصر على الخلافات السياسية فحسب، بل امتدت لتشمل التوترات العسكرية، الاقتصادية، والدينية التي أسهمت في تشكيل المشهد الإقليمي والدولي لعقود. وقد تناولت هذه الدراسة التحولات التي شهدتها هذه العلاقة خلال الفترة من عام 2000 حتى 2025، محاولةً تحليل أسباب هذه التحولات، وآثارها على المنطقة والعالم، واستكشاف العوامل الداخلية والخارجية التي ساهمت في تشكيل مسارها.

على الرغم من مرور العلاقات بين السعودية وإيران بفترات من التوترات الحادة، إلا أن هناك محاولات مستمرة للتقارب، وهو ما يعكس تداخل العديد من المصالح الحيوية بين البلدين على الصعيدين الإقليمي والدولي. في هذه الدراسة، تم التطرق إلى أنماط الصراع والتعاون بين السعودية وإيران في سياق قضايا هامة مثل الملف اليمني، السورى، العراقي، واللبناني، حيث أظهرت الدراسة كيف أن هذه القضايا قد أضافت أبعادًا جديدة للعلاقة بين البلدين. ومع تطور الأحداث، اتضح أن كلا الطرفين يسعيان إلى تحسين العلاقات في بعض الفترات لمواجهة التحديات المشتركة، خاصةً في مواجهة تهديدات تنظيمات متطرفة مثل “داعش” و”القاعدة”، وضرورة التعاون في مجالات الأمن الإقليمي والحفاظ على الاستقرار.

لقد تناولت الدراسة أيضًا أثر التحولات العالمية، مثل التغيرات في النظام الدولي وصعود قوى جديدة مثل الصين وروسيا، على العلاقات السعودية–الإيرانية. حيث أن التغييرات في القوى العظمى لا تقتصر على إعادة تشكيل التحالفات التقليدية فحسب، بل تفتح أيضًا أبوابًا للتعاون الاستراتيجي بين الدول التي قد تكون في صراع تاريخي. وبينما تواصل الولايات المتحدة التراجع في بعض المناطق، يسعى الطرفان لتكييف سياساتهما بما يتماشى مع هذه التحولات، ما يجعل العلاقة بينهما عنصرًا أساسيًا في تحديد مسارات المنطقة.

أظهرت الدراسة أيضًا أنه رغم وجود فجوات عميقة في الآراء حول العديد من القضايا الاستراتيجية، إلا أن السعودية وإيران بحاجة إلى التركيز على التعامل مع التحديات المشتركة، مثل الأمن البحري في الخليج، مكافحة الإرهاب، والتنمية الاقتصادية في المنطقة. إن استقرار المنطقة لا يمكن تحقيقه دون التنسيق بين القوى الكبرى في الشرق الأوسط، ويُعد تحسين العلاقات بين السعودية وإيران أمرًا محوريًا في تحقيق هذا الهدف. وقد أظهرت هذه الدراسة أن أي تطور إيجابي في العلاقة بين البلدين قد يسهم في تعزيز استقرار المنطقة ويقلل من احتمالات التصعيد العسكري.

لكن، لا يزال هناك العديد من التحديات التي تحول دون تحقيق الاستقرار الكامل بين البلدين. اختلافات الرؤى حول القيادة الإقليمية، القضية الفلسطينية، التأثير في البحر الأحمر والقرن الإفريقي، إضافة إلى القضايا الطائفية التي تلعب دورًا كبيرًا في العلاقات بينهما، كلها تحديات يجب معالجتها بحذر. ولذلك، من الضروري أن يكون هناك فهم مشترك بين القيادات في كلا البلدين حول الأبعاد الإنسانية والأمنية التي تتطلب التعاون المشترك لتقليل تأثير هذه الاختلافات.

الخاتمة والتوصيات

خلصت هذه الدراسة إلى أن العلاقات السعودية–الإيرانية خلال الفترة 2015–2025 قد اتسمت بثنائية “الثابت والمتحول”، حيث ظل التنافس الإقليمي والتباين الأيديولوجي والرهانات الجيوسياسية عوامل ثابتة تحكم سلوك الطرفين، في حين برزت تحولات تكتيكية مرتبطة بالتغيرات الدولية والضغوط الاقتصادية والجهود الدبلوماسية، وخصوصًا الوساطة الصينية. وقد أثبتت نتائج الدراسة أن هذه العلاقة لا يمكن فهمها أو إدارتها دون استحضار البعدين البنيوي والظرفي في آنٍ واحد.

وفي ضوء ما سبق، تُوصي الدراسة بالتالي:

  1. تعزيز قنوات الاتصال الدبلوماسي المباشر بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية، وتفعيل آليات منتظمة للحوار السياسي والأمني بما يضمن إدارة الخلافات والحد من التصعيد.
  2. الاستفادة من الوساطات الإقليمية والدولية، لا سيما المبادرات الصينية والعراقية، بما يعزز فرص الوساطة المتوازنة ويضفي طابعًا مؤسسيًا على جهود المصالحة.
  3. توسيع مجالات التعاون في المصالح المشتركة، وفي مقدمتها قطاع الطاقة، ومكافحة الإرهاب، وتأمين الممرات البحرية، بما يعزز من منطق الاعتماد المتبادل.
  4. إطلاق مبادرات إقليمية للحوار الأمني تشمل القوى الخليجية وإيران، بهدف بناء آلية مستدامة لتخفيف التوترات، وتعزيز الثقة المتبادلة في ملفات مثل الأمن البحري ونزع فتيل الأزمات.
  5. العمل على تخفيف الاستقطاب الطائفي عبر الحوار الديني والثقافي، وتفعيل دور المؤسسات الدينية المعتدلة من الجانبين في بناء أرضية مشتركة قائمة على احترام التعددية المذهبية.
  6. التعاطي الواقعي مع المحددات البنيوية للعلاقة، من خلال تقنين التنافس الجيوسياسي وتوجيهه نحو مسارات أكثر استقرارًا كالتنمية والاستثمار الإقليمي المشترك.
  7. مواءمة السياسة الخارجية مع التحديات الداخلية، بما يضمن تقليل كلفة المواجهة وتعزيز الاستقرار السياسي والاقتصادي في كلا البلدين.

إن المضي في تفعيل هذه التوصيات لا يمثل نهاية للصراع أو الخلاف، بل بداية لمرحلة جديدة تُبنى فيها العلاقات السعودية–الإيرانية على أسس براغماتية تتوازن فيها المصالح مع الواقع الإقليمي، وتُقدّم فيها أدوات التعاون على حساب منطق المواجهة.

المصادر والمراجع:

  1. إيران مستقبل المكانة الإقليمية 2020 وليد عبد الحي، الجزائر: مركز الدراسات التطبيقية والاستشراف، (2010، ص 258-261.
    1. التحرك السعودي نحو إيران.. موازنة نفوذ أم اصطفاف – قراءة في ديناميكيات الردع الإقليمي وتوازن القوى https://perimjournal.com/1841/#:~:text
    1. تصعيد في الخلاف بين السعودية والكويت وإيران على حقل الدرة، موقع BBC News عربي انظر: https://www.bbc.com/arabic/articles/c03xek
    1. حول البنية السيكولوجية والمنظومة المعرفية للأمير محمد بن سلمان، وخصوصاً إعجابه بالفيلسوف الإيطالي ميكافيلي، انظر: https://mg.co.za/article/2017-11-14-the-machiavellia
    1. قيادي إخواني سابق يكشف أسراراً عن علاقة الإخوان وإيران، أشرف عبد الحميد،  موقع قناة العربية، 2019/12/24، انظر: https://ara.tv/8xapd
    1. موقف المملكة العربية السعودية من قيام الثورة الايرانية عام 1979، ناظم يونس عثمان و نزار زهير شفيق، “ مجلة العلوم الانسانية، جامعة زاخو (كردستان)، المجلد 6، العدد2 ، حزيران/ يونيو 2018، ص 488-490.
    1. انظر، موقع وزارة الخارجية السعودية: http://www.mofa.gov.sa/aboutkingdom/kingdomforeignpolicy/Pages/ForeignPolpx
    1. Natasha Turak, ‘Things will just have to be accepted as tense’, CNBC, 21/6/2023.
    1. اقرأ المزيد من اليوم الثامن : https://alyoum8.net/posts/95388
    1. اقرأ المزيد ماليوم الثامن : https://alyoum8.net/posts/95388
    1. https://studies.aljazeera.net/ar/reports/2015/02/2015241112496202.html?utm_source=chat
    1. انتقال السلطة في بيت الحكم السعودي: منصور المرزوقي
      http://studies.aljazeera.net/reports/2015/01/2015125113951906273.htm
    1. , https://www.theglobaleconomy.com/Saudi-Arabia/wb_political_stability
    1. https://www.aa.com.tr/ar/ https://www.theglobaleconomy.com/Iran/wb_political_stability/
    1. https://www.foxnews.com/world/bret-baier-interviews-
    1. https://www.sipri.org/sites/default/files/2023-03/2303_at_fact_sheet_2022_v2.pdf
    1. , https://www.dw.com/en/chinas-economic-ambitions-
    1. [1], https://www.iranintl.com/en/202309115
    1. وليد عبد الحي، إيران مستقبل المكانة الإقليمية 2020، ص 268-295.
    1. https://www.theglobaleconomy.com/rankings/wb_political_stability/MENA/
    1. https://www.pewresearch.org/short-reads/
    1. هل تستطيع الإصلاحات التكنوقراطية إنقاذ المملكة العربية السعودية؟https://www.foreignaffairs.com/articles/saudi-arabia/2022-01-27

[1] ينظر: نطريه السياسة الدولية تأثير النظرية الاقتصادية على نمو وتطور الدولة، كينيث أن والتز، المترجم هيثم غالب الناهي، دار النشر المنظمة العربية للترجمة، سنة النشر 2021: صـ 87–93.

[2] ينظر: . نظرية السياسة الدولية.  والتز، كينيث،  آديسون- ويزلي، 1979. صـ 60–67.

[3]. ينظر: مأساة سياسات القوى الكبرى. ميرشيمر، جون ج دار و.و. نورتن وشركاه، 2001. صـ 4.

[4] ينظر: النظرية الاجتماعية للسياسة الدولية ويندت، ألكسندر.. مطبعة جامعة كامبريدج، 1999.. صـ 246–252، 327–333.وبناء النظام السياسي العالمي و وجي، جون جيرارد: مقالات حول المؤسسية الدولية. روتليدج، 1998. صـ 21–36، 74–81.

[5] ينظر: السلطة والاعتماد المتبادل كيوهان، روبرت أو.، وناي، جوزيف س. لونغمان، 2011صـ 7–9، 24–29.. مثلث السلام: الديمقراطية، الاعتماد المتبادل، والمنظمات الدولية.، روسيت، بروس، وأونيل، جون آر نورتون وشركاه، 2001. صـ 37–45، 123–130.

[6]) قيادي إخواني سابق يكشف أسراراً عن علاقة الإخوان وإيران، أشرف عبد الحميد،  موقع قناة العربية، 2019/12/24، انظر: https://ara.tv/8xapd

([7]موقف المملكة العربية السعودية من قيام الثورة الايرانية عام 1979، ناظم يونس عثمان و نزار زهير شفيق، “ مجلة العلوم الانسانية، جامعة زاخو (كردستان)، المجلد 6، العدد2 ، حزيران/ يونيو 2018، ص 488-490.

[8]) انظر، موقع وزارة الخارجية السعودية: http://www.mofa.gov.sa/aboutkingdom/kingdomforeignpolicy/Pages/ForeignPolpx

[9] أهل السنة في ايران، مركز المسبار للدراسات والبحوث، 2013م. ص: 18

[10] إيران مستقبل المكانة الإقليمية 2020 وليد عبد الحي، الجزائر: مركز الدراسات التطبيقية والاستشراف، (2010، ص 258-261.

[11] Natasha Turak, ‘Things will just have to be accepted as tense’, CNBC, 21/6/2023.

[12] اقرأ المزيد من اليوم الثامن :
https://alyoum8.net/posts/95388

[13] اقرأ المزيد من اليوم الثامن :
https://alyoum8.net/posts/95388

[14] https://studies.aljazeera.net/ar/reports/2015/02/2015241112496202.html?utm_source=chatgpt.com

[15] ، انتقال السلطة في بيت الحكم السعودي: منصور المرزوقي
http://studies.aljazeera.net/reports/2015/01/2015125113951906273.htm

[16] [20] Saudi Arabia: Political stability, site of TheGlobalEconomy.com, https://www.theglobaleconomy.com/Saudi-Arabia/wb_political_stability/

[17] https://aawsat.com/home/article/1764976/1071

[18] https://www.aa.com.tr/ar/%

[19]

  Iran & China: A Trade Lifeline, The Iran Primer, United States Institute of Peace, 5/7/2023.

[20] Iran: Political stability, TheGlobalEconomy.com, https://www.theglobaleconomy.com/Iran/wb_political_stability/

[21]

[23] James Rosenau, The Study of Political Adaptation (London: Frances Pinter, 1981), pp. 62–66.

[22] التحرك السعودي نحو إيران.. موازنة نفوذ أم اصطفاف – قراءة في ديناميكيات الردع الإقليمي وتوازن القوى https://perimjournal.com/1841/#:~:text

[23] https://www.foxnews.com/world/bret-baier-interviews-

[24] https://www.sipri.org/sites/default/files/2023-03/2303_at_fact_sheet_2022_v2.pdf

[25] Nik Martin, China’s economic ambitions a huge draw for Saudi Arabia, site of Deutsche Welle, https://www.dw.com/en/chinas-economic-ambitions-

[26]

[27], https://www.iranintl.com/en/202309115082

[28] وليد عبد الحي، إيران مستقبل المكانة الإقليمية 2020، ص 268-295.

[29] https://www.theglobaleconomy.com/rankings/wb_political_stability/MENA/

[30] تصعيد في الخلاف بين السعودية والكويت وإيران على حقل الدرة، موقع BBC News عربي انظر: https://www.bbc.com/arabic/articles/c03xek

[31]  حول البنية السيكولوجية والمنظومة المعرفية للأمير محمد بن سلمان، وخصوصاً إعجابه بالفيلسوف الإيطالي ميكافيلي، انظر:

, https://mg.co.za/article/2017-11-14-the-machiavellian

[32] https://www.pewresearch.org/short-reads/2020/01/

[33] هل تستطيع الإصلاحات التكنوقراطية إنقاذ المملكة العربية السعودية؟https://www.foreignaffairs.com/articles/saudi-arabia/2022-01-27

[34] ينظر: تاريخ ايران الحديث، اروند ابراهيميان، المجلس الوطني للثقافة والفنون والاداب 2014م ص23

د. صبري عفيف

مدير تحرير مجلة بريم الصادرة عن مؤسسة اليوم الثامن للإعلام والدراسات، المدير التنفيذي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى